من يرصد المشهد السياسى المصرى اليوم سيلحظ صعود اليمين السياسى الدينى وبقوة، هذا ليس أمراً مثيرا فى حد ذاته. فاليمين الدينى Religious Right يصعد ويأفل بالتناوب مع قوى سياسية أخرى فى دول ديمقراطية عدة فى أوروبا، كذلك فى الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ولكن المثير فى مصر هو أن الديمقراطية ليست مُعرّفة لتشمل «حكم الأغلبية مع الحفاظ على حقوق الأقلية حين تحكم الأغلبية» فنجد من يتصور أن الديمقراطية تعنى فقط إرادة الأغلبية دون الالتفات لحقوق «من يختلف» مع تلك الأغلبية. كما أن فكرة «التناوب» من صعود وأفول نجم اليمين السياسى الدينى لا تبدو فى الحسبان أيضا. وكأن الافتراض أن ممارسة «الديمقراطية» ستحدث مرة واحدة وواحدة فقط. هذا قد يفسر صدام البعض مع حديث الشيخ محمد حسين يعقوب عن الاستفتاء على الدستور «بنعم» واصفاً إياه بأنه «غزوة الصناديق». قارن الشيخ يعقوب فى تعبيره «غزوة الصناديق» بين أهل السلف حين كانوا يتباهون فيما بينهم قائلين «بيننا وبينكم الجنائز» أى عدد من سيأتى فى جنازة من تُوفى، على افتراض أن العدد يعكس مدى حب الناس لهذا الشخص أو ذاك، وبين وقتنا السياسى الحالى قائلا «بيننا وبينكم الصناديق»، مفترضاً بذلك أن استفتاء الشعب المصرى على تعديلات لدستور 1971 «بنعم» كان يعبر عن «حب الناس للدين». كيف وصل الشيخ يعقوب «منطقياً» لأن يربط بين استفتاء ب«نعم» على تعديلات فى دستور قديم، من المفترض أن ثورة 25 يناير قد أسقطته لتسمح بكتابة دستور جديد الآن، وبين استفتاء على «حب الدين» هو ما أثار الانتباه والحيرة. فلا يبدو أن هناك منطقاً فى ذلك سوى الرجوع مباشرة إلى الاختزال ذاته فى الخطاب السياسى العبقرى لجماعات اليمين السياسى الدينى التى نجحت من خلاله فى الربط بين «الواجب الشرعى» و«الاستقرار» و«اللون الأخضر» وإيجابية الكلمة «نعم»، لتوحى للناخبين بأن الخيار الصحيح هو قبول تعديلات على دستور قديم، كى ننتقل سريعاً لانتخابات تأمل تلك الجماعات من خلالها فى المزيد من الصعود السياسى بل والاكتساح. وفى المقابل من قال «لا» أراد مواجهة المهمة الصعبة الآن وهى كتابة دستور يجمع كل تيارات وتعددية المجتمع المصرى. من ثم، النجاح فى التصديق على دستور قديم هو بالفعل فى نظر اليمين السياسى الدينى «غزوة» بمعنى انتصار. وبهذا «النصر» يُقر الشيخ يعقوب بأن الصناديق قد قالت للدين «نعم» ويكبر تكبيرة العيد. بل يستطرد الشيخ يعقوب منتقدا المعارضة للتعديلات الدستورية قائلا «دلوقتى نغمة إيه؟ خلاص الدين يدخل فى كل حاجة؟ آه.. مش انتم قلتم الصناديق تقول؟ مش دى الديمقراطية بتاعتكم؟ الشعب يقول عايز إيه؟.. أهو الشعب بيقول نعم للدين. صح؟ خلاص هى نعم للدين. إحنا عايزين دى. واللى يقول: خلاص بلد مانعرفش نعيش فيها.... إنت حر!» وبإيماءة طرد بيده يقول الشيخ «ألف سلامة.. يعنى عندهم تأشيرات كندا وأمريكا. همه حرين.. لكن البلد.. الشعب.. إنتم ديمقراطيتكم بتقول الشعب بيقول إيه.. الشعب قال عايز دين.. خلاص عايز دين، إدّى له دين. وإحنا بتوع الدين». فى هذا الخطاب نشهد التباساً شديداً لمفهوم الديمقراطية فى تعريفها القاصر «لحكم الأغلبية» وليس الحفاظ على حقوق الأقلية. وليس المقصود هنا أقلية دينية، بل فقط أقلية فى أى فكرة أو توجه. فيبدو أن إيماءة «ألف سلامة» هى فقط ما يفهمها من يعرّفون الديمقراطية هكذا. فى حين علينا أن نعلم مثلاً أن أكبر مشكلة تواجه الرئيس الأمريكى من «الحزب الديمقراطى» هى «إرضاء» الأقلية فى شعبه من «الحزب الجمهورى» المعارض نظراً لأن حزبه هو الحاكم، والعكس صحيح. إذن من يحكم بأغلبية مسؤول عن «إرضاء» الأقلية. فى الأخير، أن يتصور البعض أنهم نجحوا فى «غزوة الصناديق» لأنهم «بتوع الدين» و«الشعب عايز دين» قد ينبئ باحتمال تعريض أنفسهم وأتباعهم «لنكسة الصناديق» أولاً فى حالة استيعابهم للمعنى الكامل للديمقراطية فيما يخص علاقة الأغلبية بالأقلية، ثم ثانيا فى حالة إدراكهم فكرة «التناوب» بين القوى السياسية الصاعدة. ف«جماعات الضغط» تأتى من الأقليات ذات المصالح السياسية، وفى حالة «انتصار» اليمين السياسى الدينى لفترة، فالضغوط ستأتى عليه من المعارضة القوية ضد «الأغلبية» الحاكمة. فيبدو أن الدرس المستفاد الوحيد من مصر بعد 25 يناير أن الحكم بالفعل ليس دائما. ولذلك قد يَجدُر بكل من هم بصدد الصعود السياسى فى الوقت الراهن أن يدرك هذا جيدا. * زميل مركز دراسات الشرق الأوسط، جامعة واشنطن، سياتل [email protected]