تذكرت الفنانة القديرة سناء جميل وهى تضحك من فرط السعادة، ثم تبكى وتنهمر دموعها قبل أن تتحول ببراعة إلى الضحك مرة أخرى، وتتعالى ضحكاتها، وتتصاعد انفعالاتها حتى تتحول ملامحها ونظراتها وانقباضات عضلات وجهها من السعادة إلى الجنون. تبتعد الكاميرا تدريجياً لنشاهدها وهى تجرى حافية القدمين إلى حافة الجبل أو شريط القطار أو ألسنة النار.. تقطع متابعةَ الكاميرا لها مشاهدُ قصيرة لأشخاص مختلفين غير متشابهين ينادون عليها محذرين.. يتأكد لنا من استمرارها فى الجرى وإطلاق الضحكات الهيستيرية أنها لا تسمع النداءات والتحذيرات. أتوقف هنا لأقطع تدفق خيالى وخيالكم عند هذا الحد، وأعود بكم إلى الواقع الذى نعيشه هذه الأيام: فرحنا كلنا، وصرخنا، وقفزنا فى الهواء فرحًا بنصر الثورة الأول عند إعلان رحيل الطاغية الأكبر، ثم تبادلنا القبلات والأحضان معبرين عن فرحتنا الحذرة بنصر الثورة الثانى عند إعلان حل جهاز أمن الدولة. عند نصر الثورة الثالث ارتسمت ابتسامات عريضة على وجوهنا جميعًا، ونحن واقفون فى طوابير أول استفتاء ديمقراطى فى تاريخ مصر الحديث. ضحكنا كثيرًا، وبكينا أكثر من فرط التأثر لفقد الشهداء وإراقة الدماء وقائمة طويلة شديدة القسوة من الإصابات.. بكينا لأحداث أطفيح وضحايا البلطجة المنظمة، كما بكينا لما أدركناه من نزيف لموارد مصر لم يدفع ثمنه إلا فقراء الأمة.. فرحنا بالمناخ الديمقراطى وحرية التعبير المتنامية، وشحبت وجوهنا وانتفضت قلوبنا مع تزايد المخاوف من مستقبل غامض. خطر شديد أن يعيش الإنسان هذا التحول المتكرر من الفرح والسعادة إلى الحزن والتعاسة.. خطر يصل إلى تعرضه للجنون، وأول مظاهر الجنون أن يتوقف عن السمع.. عن الإنصات. كل يوم تَشرف ساقية عبدالمنعم الصاوى باستضافة ندوات فكرية حول الشؤون السياسية ومستقبل مصر، الكثير من هذه الندوات تفاعلىّ يشارك فيه الحضور الكرام بالرأى وطرح الأسئلة.. ما لاحظته مؤخرًا هو تزايد معدلات الصمم العقلى عند نسبة لا يستهان بها من المشاركين! أقول بلسانهم ما لا يعلنونه وربما لا يدركون أنه حالهم: «جئت لأقول ما أريد قوله، وليس عندى أى استعداد للإنصات بحثًا عن الحقيقة أو عن منطق أو طرح جديد، ما أقوله هو الصواب، وكل ما عداه مرفوض». انحيازى للحكمة التى اخترتها عنوانًا لكل مقالاتى يدفعنى إلى التحذير من فقدها فى هذا المناخ الأصم، فالحكمة تتغذى على السمع الذى يرتقى ليصل إلى الإنصات: ينصت الحكيم لكل الآراء، ويعيها جيدًا قبل أن يخرج على الناس برأى سديد، ويظل هو نفسه متشككًا فيما قال، مستعدا للرجوع عنه وتغييره لو أدى استقباله الحسن إلى منطق أو رأى أصوب. يعيش الحكماء فى هذه الحالة من اليقظة الفكرية طوال الوقت.. لقد انتهزت فرصة زيارة السيد سكرتير عام الأممالمتحدة للساقية تحت عنوان «الإنصات للشعوب.. عالم عربىّ متغير» لأطرح تعريف الإنسان الذى أعتز به كثيرًا: «هو من يفكر ويتعلم طوال الوقت، ويتصرف بمسؤولية تجاه سائر المخلوقات». لا يتعلم الإنسان إلا حينما ينصت ولا يكتفى بالسمع، فالإنصات هو حالة السمع المقترنة بالاحترام: احترام المتحدث، واحترام حقه فى التعبير عن نفسه، واحترام ما يقوله مهما اختلف مع ما ترسّخ فى وجدانى وعقلى من أفكار. علينا جميعًا فى هذه المرحلة الدقيقة أن نُروِّج للحكمة وأهمية الإنصات لكل ما هو متاح من أفكار، مع سعى دائم لتحقيق التراكم الفكرىّ القائم على التفكير الجمعىّ، وهو -بلا شك- أعلى درجات التفكير، وهو سر تمسكنا بالديمقراطية التى ننتظر منها الخير الكثير بإذن الله.. هذا مع إدراك كامل لضرورة ألا تقتصر هذه الحوارات على القاهرة وأن تمتد إلى كل أنحاء الجمهورية. أما الانفراد بالرأى وصم الآذان، فهو الذى أدى إلى غرق قوم نوح وهلاكهم، واندفاع ملكة الدراما المصرية سناء جميل إلى حافة الهاوية غير مصغية للتحذيرات النابعة من ضمير يقظ وحكمة بليغة. أرهقناك يا مصر بكثرة التناقضات، ولكنا لن نترك المجرمين -الذين حرصوا على دفعنا للجنون- دون حساب، فالحكمة تقضى بأن يدفع المجرمون ثمن جرائمهم وعدوانهم الآثم على شرفنا وكرامتنا وتهديدهم لسلامة عقولنا. مصر وفطرة شعبها أعظم وأرقى من التعرض للجنون، ولكن التحذير واجب. [email protected]