«بنضحك على نفسنا علشان نعرف نعيش».. عبارة قصيرة اختتمتت بها «زينب المهدى» الناشطة السياسية آخر كلماتها عبر موقع الفيس بوك قبل أن تغلقه إلى الأبد، عبارة تختزل كل معاناتها وتداعيات نفسها وأسئلتها الحائرة المعلقة، عبارة اختصرت فيها المسافة نحو المجهول , فتأبطت مخاوفها وانطلقت سريعا دون أن تلتفت لا للزمان ولا المكان حتى لا تجبن أو تضعف سريرتها فيما عقدت العزم عليه . كانوا يرونها لماما وعندما غابت وطال اختفاؤها لم يسأل عنها المفترض أنهم اصدقائها، وعندما لوحت بالانتحار أخذوا كلامها على محمل الهزل، من تبقى لها منهم أساء تقدير معاناتها وحجم مأساتها التي لم يلتفت إليها أحد أو حتى ينتبه لها , طرحت أسئلتها دون أن تتلقى الاجابات التي انتظرتها ربما تروى عطشها لمعرفة ما يدور من حولها , أو تشفى غليلا كان يحاصر خطواتها منذ أن انشقت عن جماعة الاخوان المسلمين وانضمت إلى حملة الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح في الانتخابات الرئاسية عام 2012 (بهذا الشغف والاقبال والتفانى ) كما وصفها أحد أصدقاءها . أدركتها لحظة الحسم مبكرا قبل أن تعثر على الاجابات الملتبسة في عقلها ووعيها، فقدرتها الذاتية لم تستطع تحمل المرحلة المرتبكة التي لا تدعو للتفاؤل ويشوبها الكثير من الشكوك، يهرب منها اليقين ويجافيها الأمان وجلاء الحقيقة التي اندست بين ركام هائل من الاكاذيب والمغالطات . أخلصت لمبدأها فتعثرت، وتماهت في عقيدتها فانتكست، لأنها ببساطة تطرفت! ولم تعرف الوسطية طريقا لها , والتطرف في أي شئ يفقد صاحبه المنطق والاتزان , انحرفت البوصلة لايمانها المتطرف بفكر الاخوان ومن ثم الانفصال عنهم واللجوء لمعادلهم الدكتورعبدالمنعم أو الفتوح , ثم تركت هذا وذاك فقررت خلع الحجاب , وغاصت في فوضى الأفكار فتلقفتها أوهام فكر الملحدين وهو أيضا فكر متطرف لا ينتمى للعقلانية بشئ عكس ما يدعون , في الوقت الذي تخلى عنها أصدقائها , فنهشتها الوحدة وتعمق تشتتها في أفكار جدلية.. «تعبت.. استهلكت ومفيش فايدة».. ثم اختفت وطال غيابها الذي لم يأبه به أحد من المقربين اليها أو يحاول الاستفسارعنها كما قال زميلها عمار على صفحته الشخصية في الفيس بوك . ترى ما الذي دار بخلدها قبل أن تقرر الابتعاد ومن ثم الرحيل؟؟ ماذا جال بخاطرها لحظة الفصل بين الحياة والموت؟؟ أسئلة قدرية لن يجيب عليها أحد طالما حطت رحالها إلى مصيرها المحتوم بارادتها دون الالتفات إلى عالمها الذي ضاق عليها، كحبل المشنقة الذي نصبته لنفسها واختارته لينهى حياتها القليلة المثخنة بالآلام والعذابات والتساؤلات !! نعم أحرقتها تجربتها القصيرة في الحياة فلم تطق صبرا للجنوح نحو الموت، بدلا من نضوجها وانتزاع عالمها الفكرى من براثن التشويش والأفكار الملتبسة في وطن أصبحنا سبايا لمتناقضاته الفكرية، تحتضر انسانيته فأصابه فيرس الاكتآب , تعلق فيه المشانق لكل منحرف عن المسار دون أدنى اكتراث بآدميته الانسانية ..«كلهم ولاد كلب.. واحنا بنفحت في مايه.. مفيش قانون خالص هيجيب حق حد بس احنا بنعمل اللى علينا أهى كلمة حق نقدر بيها نبص لوشوشنا ف المراية من غير ما نتف عليها.. مفيش عدل.. وأنا مدركة دا ومفيش أي نصر جاى ..» !. الكل شارك في ذبح براءة زينب بالقول أو الفعل، دمر براعم الأمل داخلها دون أن يرف له جفن، لقنها التطرف دون تفسير منطقى , وعندما حاولت الفهم لم تجد إلا جدران عالية تحول بينها وبين الوصول للأجوبة على تساؤلاتها القدرية والمصيرية , انتمت للاخوان وهى لا تعرف من أمور الدين إلا فتاتا , وعندما حاولت الفهم والاعتراض نُبذت وتحولت إلى عنصر شذ عن القاعدة , وحينما جرفها تيار الالحاد لم تهدأ روحها ليقينهم الذي حاولوا بثه فيها , بل ازدادت ضياعا فقررت إنهاء تلك المهزلة في غفلة من المحيطين بها ورحلت ...!! زينب نموذج مصغر لمجتمع ضاعت فيه الأحلام ولم يعد يمتلك مستقبله، فكم من منتحر أصبح عنوان لخبر في صحيفة يومية ؟؟.. «فلان وجد مشنوقا على لوحة إعلانية في الطريق الصحراوى».. «عاطل يشنق نفسه لعدم قدرته على مواجهة ديونه».. «أب يقتل أولاده وينتحر لعدم مقدرته الانفاق عليهم» وو.. وهكذا أصبح يطالعنا صباح كل يوم جديد على خبر مشؤوم من هذا النوع وتحول إلى ظاهرة مجتمعية مفزعة، وكأننا أصبحنا في سويسرا بلاد السحر والرومانسية وأعلى نسبة انتحار في العالم لامتلاكهم كل شئ , مع الفارق أن المنتحر هنا قد ضاقت به الدنيا لافتقاده كل شئ!! الأمن والأمان والاستقرار واليقين , الذين استبدلوا بانتشار الجريمة وانهيار الاقتصاد وتمدد الارهاب حتى بات قاب قوسين أو أدنى من كل بيت.. ذلك الشبح الذي فرضته إرادة متطرفة مارقة تحت ستار الدين , وتريد فرضه عنوة على المجتمع ببث الأفكار المسمومة في شباب لا يفهم معنى الوسطية أو حتى لديه الاستعداد للفهم , يتلقن ثم ينفذ ثم يعيث خرابا ثم يُقتل , تلك هي رسالته المضللة في الحياة ومن أجل تحقيقها زُرعت المجموعات الارهابية على اختلافها في فراغ المعرفة وغفلة ذوى الأمر . فهل نصبح أسرى عالمنا الافتراضى هروبا من عالمنا الحقيقى حتى لا نلق مصير زينب، واقعنا الذي بخل علينا بكل شئ، لم يتحقق فيه عدالة اجتماعية ولا حرية ولا أدنى حدود الآدمية , فلا يزال الفساد مستشريا وقمع الحريات طاغيا ونسائم الحرية بعيدة عن المنال ..؟؟ اشترك الآن لتصلك أهم الأخبار لحظة بلحظة