بقلم : يكتب بدمع العين، بماء الذهب، بشجون عاشق قديم، برقة صوفى وخيال شاعر، هذا هو أديبنا الكبير الأستاذ «أحمد بهجت» الصحفى الشهير بالأهرام. حينما كنت فى العشرين كان لكل صديق من أصدقائى نجمه المفضل «محمود الخطيب» أو «حسين فهمى» أو «عبدالحليم» حسب تباين مواهبهم واهتماماتهم، الأمر كان محسوما بالنسبة لى «أحمد بهجت» كان نجمى المفضل.. أبدأ صباحى بارتشاف فنجان الشاى المعطر بالنعناع وأنا أقرأ عموده اليومى (صندوق الدنيا)، فى هذا الوقت من الثمانينيات كان «أحمد بهجت» على أعتاب الخمسين، فى اكتمال رجولته يشع مرحاً وعشقاً صوفياً، صوفياً وساخراً، تلك هى خلطته السحرية التى لا تُقاوم. كان كاتبى المفضل وكثيراً ما أضحكنى وأبكانى، لغته المجدولة من ذهب، وموضوعاته المنتزعة من صميم الحياة اليومية أحيانا كانت تخرج زفرة عاشق، وكانت له طريقته المدهشة فى الدمج بين ذكرياته وأفكاره، درس الكتابة الحميمة التى تعلمتها منه فيما بعد. كنتُ- من خلال مؤلفاته- أعرف كل شىء عنه: حبه للقطط والكلاب، أمه الحازمة ووالده الزاهد، جده الذى لا يسمح لشىء أن يعكر صفوه، عشقه لمكة ووقوعه فى هوى الكعبة، قصة حبه الأليمة لفتاة مسيحية أثناء مراهقته، ثم قصة حبه العظيمة التى كتب عنها فى الجزء الثانى من «مذكرات صائم»، فكانت صرخة روح وصلت لخالقها العظيم من خلال ألم عظيم. بشكل ما كنت أعتبر نفسى ابنه الروحى الذى لم يلتقِ به أبداً، لذلك فعلت ما لم أتصور أن يفعله فتى حالم مثلى، الاتصال بجريدة الأهرام، رد علىّ صوت روتينى غير مبالٍ، وبالتأكيد لم يسمع تلك الطبول التى تتردد فى صدرى وأنا أسأله عن رقم هاتف «أحمد بهجت»، ببساطة أعطانى الرقم فوضعت السماعة، وأنا لا أكاد أصدق السهولة التى حصلت بها على رقم منزله. كنا فى منتصف الثمانينيات والأشياء مازالت تحتفظ ببكارتها الأولى (على الأقل بالنسبة لى)، بأصابع مرتجفة رحت أدير ثقوب الهاتف المتسعة، فى ذلك الزمان كانت أجهزة الهاتف ضخمة سوداء بها ثقوب أشبه بدفة السفن، وكنت تشعر بأنك تقوم برحلة فى أعماق مجهولة حينما تطلب رقماً، لم تكن أجهزة الهاتف مجرد أزرار كحالها الآن. وانساب صوت عميق مهذب، لا أذكر ماذا قلت له، كنت غير مصدق أننى أتحدث معه، أبديت إعجابى الشديد بكتابه الجديد «ثانية واحدة من الحب». تساءلت لماذا تشغله الصحافة عن القصة القصيرة، مغامراً باندثار أعماله فى صحف سيّارة، قلت إنه أقرب كاتب عربى لروح «تشيكوف» العظيم. كان الرجل يصغى فى أدب، وما إن نطقت باسم «تشيكوف» حتى ظهر الاهتمام فى نبرات صوته، على كثرة ما أعرفه عنه لم أكن أعلم أنه عاشق قديم للأديب الروسى العبقرى، لدرجة أنه يضع صورته فوق مكتبه مجاورة لصورة أبيه. لذلك لم أصدق أذنى حينما دعانى إلى زيارة منزله محدداً العنوان بدقة بالغة تؤكد أنه يعنى ما يقوله. وأغلقت الاتصال غير مصدق دعوته. أزور «أحمد بهجت» فى بيته؟! هل سمعتم عن شىء كهذا؟! كنت فى سن الأحلام مفعماً بالآمال الكبيرة، تحلّق روحى فى فضاء واسع، وأنحنى كى لا أصطدم بالسماء السابعة، مشروع صوفى ونسيج عاشق، هذا ما كنتُ وقتها حين دلفت إلى مسكنه، البناية هادئة وعند المدخل مرآة عريضة وأعمال تشكيلية، طرقت الباب بيد مرتجفة فسمعت نباحاً مخيفاً متصلاً ملأنى رعباً، ثم حركة خفيفة لا تكاد تسمع خلف الباب الذى انفتح ليظهر خلفه رجل فى بداية الخمسينيات ذو قامة متوسطة وبنيان عريض ولحية بيضاء، رجل اسمه «أحمد بهجت». ذكرت اسمى فلم يبدُ لى أنه تذكرنى لكنه أوسع لى الطريق فى صمت، مدخل قصير ثم قاعة متسعة مجلدة بالكامل بالخشب ليتحول البيت كله إلى مكتبة عملاقة تشتمل على آلاف الكتب، فى المقدمة مكتب خشبى عتيق عليه أكوام من الأوراق البيضاء وأقلام رصاص كثيرة وهاتف وأباجورة. جاء فى صمت ورحب بى فى بساطة مستأذنا فى إنهاء المقال، ولبثت أرقبه وهو يكتب شاعراً بنشوة روحية مدهشة، ودار الحديث بيننا فى يسر وكأننى أعرفه طيلة العمر (والحقيقة أن الأمر كذلك)، ولاحظت أنه يريد أن يسمع أكثر مما يريد أن يتكلم، وبدا لى مدهشا أن الرجل الذى يقرأ له المثقفون من صفوة مصر رقيق مجامل مع فتى فى عمر أبنائه لا يملك إلا قميصه وأحلامه. بعد قليل توافد أصدقاؤه تباعاً وتبين أنه معتاد الكتابة وسط مجالس الأصدقاء، وبرغم كثرة الأصدقاء لم يفقد اهتمامه بى، مرت ساعات الليل سريعة وأنا أرجو أن تطول، أهدانى كتابه القيم (أنبياء الله)، ثم كان عشاء دسم، خدمنا فيه بنفسه وحرص -بكرم حقيقى صادق – على أن يجعلنا نملأ الأطباق كلما نفدت بطعامه الشهى الملىء بالتوابل، وحينما حان موعد عودتى إلى طنطا انزعج من سفرى ليلا وعرض علىّ أن أنام عنده حتى الصباح. وإننى لأتساءل الآن -بعد خمس وعشرين سنة كاملة- عن سر تلك الحفاوة غير المبررة، خصوصا أنها لم تكن المرة الوحيدة، بل زيارات كثيرة متكررة على مر عدة أعوام بعدها، ما الذى يدفعه للاهتمام بشاب متحمس لمجرد أنه يريد ذلك؟ خصوصاً وقد كانت حماستى تدفعنى لما أخجل الآن من تذكره، إيقاظه فى أوقات غير ملائمة برنين الهاتف الطويل، وزيارات طويلة متكررة، تصادف بعضها مع مجيئه من سفر طويل. فيما بعد تبينت السبب: إنه «ابن ناس» لا أكثر، رجل ربته أسرته جيدا ويفهم معنى الضيافة حتى لو كان الضيف مجرد فتى فى عمر أبنائه، رجل من تلك القلة النادرة: باطنه كظاهره، كلاهما أبيض جميل. ومرت الأيام تلو الأيام. كبرت وفهمت أن اقتحامى خلوته على هذا النحو المتكرر لم يكن عملاً لائقاً لمجرد أن الرجل لا يستطيع إلا أن يرحب بضيوفه. شعرت بشىء غير أخلاقى فيما كنت أفعله وقررت أن تعود علاقتى به على النحو القديم: كاتب وقارئ، نجم ومعجب.. هذه هى العلاقة الصحيحة والصحية معا. والآن ماذا أقول بعد كل هذه الذكريات الحميمة المرهقة!؟ لقد اقتربت من جو حميم تمنيت أن أعيشه، وأضعت سنوات كثيرة فى أحلام أردتُها، تمنيت أن أصبح مثله دون أن أملك مواهبه بالذات أسلوبه المجدول من ذهب واليوم أتمنى لو لم أكن قد قطعت هذا الطريق، لا أعتقد أن هناك كاتباً تمنى أن يرث ابنه مهنته، القلم لا يكتب بمداد الحبر بل بدم القلب وبالتأكيد فسنه لا يحتك ببياض الورق فحسب بل بشغاف القلب أيضاً. وبعد كل شىء ورغم كل شىء مازال ل«أحمد بهجت» مكانه ومكانته: مكان فى القلب حيث تُسقى الذكريات بالدم، ومكانة الأب الروحى مهما مرت بى الأيام.