تقدمت اللجنة المشكلة بقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة لإدخال تعديلات على الدستور الصادر سنة 1971، الذى عطل العمل به بقرار من هذا المجلس، بعد أن تخلى السيد رئيس الجمهورية عن منصبه كرئيس للجمهورية يوم 11 فبراير 2011، مسنداً تلك السلطات إليه. وبعيداً عن مشروعية هذا الإجراء، ودون البحث فيه لتبيان ما إذا كان يتفق وأحكام الدستور المعطل، الذى كان سارياً عند التخلى، ذلك أن هذا الدستور قد نص فى الفصل الأول من الباب الخامس منه، وفى المادة 82 على وجه التحديد، على أنه: إذا قام مانع مؤقت يحول دون مباشرة رئيس الجمهورية اختصاصاته أناب عنه نائب رئيس الجمهورية أو رئيس مجلس الوزراء عند عدم وجود نائب لرئيس الجمهورية أو تعذر نيابته عنه. ولا يجوز لمن ينوب عن رئيس الجمهورية طلب تعديل الدستور أو حل مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو إقالة الوزارة. وجاء نص المادة 83 من الدستور على أنه: إذا قدم رئيس الجمهورية استقالته من منصبه وجه كتاب الاستقالة إلى مجلس الشعب. وجرت أحكام المادة 84 أيضاً على أنه: فى حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى الرئاسة مؤقتاً رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلاً حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا، وذلك بشرط ألا يرشح أيهما للرئاسة، مع التقيد بأحكام الفقرة الثانية من المادة 82 من الدستور، ويعلن مجلس الشعب خلو منصب رئيس الجمهورية. والملاحظ أن ما حدث فى مصر لم يجر وفقاً لأحكام المواد سالفة البيان، إذ لم يقدم الرئيس كتاب استقالته من منصبه إلى مجلس الشعب، بل أعلن التخلى ببيان أذاعه نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الحين، كما لم تتبع أحكام المادة 84 من الدستور، التى تحدد من يتولى رئاسة الجمهورية مؤقتاً. ومع هذا، وإزاء ما حدث فى مصر فى 25 يناير 2011 بمدينة القاهرة وغيرها من المدن وفى عواصم المحافظات المختلفة فى طول البلاد وعرضها من احتشاد الشعب ومطالبته بإسقاط النظام ككل: رئيساً ومرؤوسين له، وما يقتضيه التعميم لهذه المطالب من أن الدستور القائم غير مقبول من جماهير الشعب المصرى. فقد تصدى المجلس الأعلى للقوات المسلحة- فى لحظة فارقة فى التاريخ المصرى- وتولى سلطات رئاسية باعتباره حامياً لثورة الشعب وملتزماً بالحفاظ عليها، وأعلن بيانات عسكرية عدة مؤداها أنه مسؤول عن حماية الثورة وتحقيق مطالبها والحفاظ على الوطن وسلامة أراضيه، بل أصدر بيانه الأول فى يوم 10 فبراير 2011 أى قبل الإعلان عن تخلى رئيس الجمهورية عن منصبه بيوم واحد.. ومفاد هذا البيان الأول أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتعهد بحماية ثورة الشعب المصرى. وبموجب اضطلاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بصلاحيات رئيس الجمهورية، شكل لجنة لإدخال تعديلات على دستور 1971، وجاء تشكيل هذه اللجنة من مستشار جليل سابق من مستشارى مجلس الدولة وثلاثة مستشارين من المحكمة الدستورية العليا واثنين من أساتذة الحقوق وأحد السادة المحامين. والملاحظ أن هذه اللجنة لم تتضمن أياً من مستشارى النقض أو الاستئناف. وقد تقدمت اللجنة الموقرة بمشروع بتعديلات على المواد 75، 76، 88، 148، 139، 93، وإلغاء المادة 179، وإضافة فقرة إلى المادة 189، وإضافة مادتين تحت رقمى 189 مكرر و 189 مكرر (1). وقد لوحظ أن المشروع المقترح لتعديل المادة 75 قد اشترط فيمن ينتخب رئيساً للجمهورية أن يكون مصرياً من أبوين مصريين، وأن يكون متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية، وألا تقل سنه عن أربعين سنة ميلادية، وألا يكون قد حمل أو أى من والديه جنسية دولة أخرى، وألا يكون متزوجاً من غير مصرية. وهذان الشرطان الأخيران سيؤديان إلى حرمان عدد هائل من المصريين، الذين هاجروا من البلاد كرهاً أو اختياراً، بسبب ما قد يكونون قد تعرضوا له من اضطهاد أو إساءة أثناء الحكم الشمولى، الذى حارب بضراوة كثيراً من شرفاء مصر، الذين لم يؤيدوه فى سياسته، ويصل هذا العدد إلى نحو ثمانية ملايين مصرى منتشرين فى العالم أجمع- بقاراته الخمس- وكثيرون منهم قد أثبتوا جدارتهم فى مجالات علمية فذة تستفيد منها الدول التى هاجروا إليها، ومن الغريب أن هذا القيد لا يتفق مع النظام العالمى الجديد، الذى جعل العالم كقرية صغيرة، بل إن أكبر دولة فى العالم، وهى الولاياتالمتحدةالأمريكية يرأسها الآن رئيس من أصل أفريقى، فوالده ليس أمريكياً، ومن قبله رأس الولاياتالمتحدة رؤساء من أصول أوروبية هاجروا إليها واكتسبوا جنسيتها. وكذلك الأمر فى بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وغيرها. ومن أجل ذلك، يتعين تعديل هذا النص باشتراط أن يتنازل عن الجنسية الأجنبية، التى يحملها لقبول ترشيحه، وأن يترك للشعب أن يختار من يراه صالحاً من المصريين. وقد جاء المشروع فى شأن المادة 76 من الدستور، واشترط لقبول الترشيح لرئاسة الجمهورية أن يؤيد المتقدم للترشيح ثلاثون عضواً على الأقل من الأعضاء المنتخبين لمجلسى الشعب أو الشورى، أو أن يحصل المرشح على تأييد ما لا يقل عن 20 ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب فى خمس عشرة محافظة على الأقل، بحيث لا يقل عدد المؤيدين فى أى من تلك المحافظات عن ألف مؤيد. ولكل حزب من الأحزاب السياسية التى حصل أعضاؤها على مقعد على الأقل بطريق الانتخاب فى أى من مجلسى الشعب والشورى فى آخر انتخابات، أن يرشح أحد أعضائه لرئاسة الجمهورية. وتتولى لجنة قضائية عليا- تسمى لجنة الانتخابات الرئاسية- الإشراف على انتخابات رئيس الجمهورية، وتشكل اللجنة من رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً وعضوية كل من رئيس محكمة استئناف القاهرة وأقدم نواب رئيس المحكمة الدستورية العليا وأقدم نواب رئيس محكمة النقض وأقدم نواب رئيس مجلس الدولة، وتكون قرارات اللجنة نهائية ونافذة بذاتها، غير قابلة للطعن عليها بأى طريق وأمام أى جهة، كما لا يجوز التعرض لقراراتها بوقف التنفيذ أو الإلغاء، كما تفصل اللجنة فى اختصاصاتها ويحدد القانون الاختصاصات الأخرى لها. والملاحظ على هذا النص أنه قد اشترط أن يؤيد المتقدم للترشيح ثلاثون عضواً على الأقل من مجلس الشعب أو الشورى، فى حين أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد حل مجلسى الشعب والشورى، ومفاد ذلك أنه لابد من الانتظار لإعادة انتخاب مجلسى الشعب والشورى، والظروف التى تمر بها البلاد الآن لا تحتمل ذلك على الإطلاق، إذ إن انتخاب أعضاء مجلسى الشعب والشورى يحتاج إلى وقت طويل، خاصة أن الأحزاب القائمة حالياً قد نشأت بموافقة لجنة شؤون الأحزاب التى يرأسها أمين الحزب الوطنى وعدد من وزراء حكومة الحزب الوطنى، هذا بالإضافة إلى أن المجالس المحلية القائمة حالياً وكذلك العمد بالقرى هم من أتباع الحزب الوطنى والذين جاءوا بالتزوير الفاضح على غير إرادة الشعب. وجدير بالاعتبار أن الأمر يقتضى إلغاء لجنة شؤون الأحزاب، وأن يصدر قانون للأحزاب يكتفى فيه بمجرد الإخطار، وهو ما لم يتم حتى الآن. وطبيعى أن الثورة الشعبية التى أسقطت النظام السابق لم تشكل أحزاباً منها حتى الآن، والأمر يستوجب أن تعطى- هى وغيرها من باقى الأطياف- الفرصة المناسبة بعد صدور القانون الخاص بالأحزاب، لترسيخ قواعدها بعد إعلان برامجها لكى تشارك فى الانتخابات فى ظل النظام الجديد. وعلى ذلك، فإنه من الأوفق والواجب أن تجرى انتخابات رئيس الجمهورية أولاً، ويلزم بنصوص دستورية قاطعة بأن يدعو إلى انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد يتناسب وطموحات الشعب المصرى، ويحقق مطلبه فى تحديد اختصاصات رئيس الجمهورية، حتى لا يتحول إلى فرعون ليس لسلطاته حدود كما هى الحال فى دستور 1971، وهذا الأمر يتم بإعلان دستورى جديد للمرحلة الانتقالية. وقد شمل مشروع التعديلات الدستورية المقترحة فى المادة (88) أن تتولى لجنة عليا ذات تشكيل قضائى كامل الإشراف على الانتخاب والاستفتاء بدءا من القيد بجداول الانتخاب وحتى إعلان النتيجة، وذلك كله على النحو الذى ينظمه القانون. وهذا الحكم الذى ورد فى النص المشار إليه قد أعاد الاشراف القضائى الكامل على الانتخاب كما كانت الحال للدستور عند وضعه. وقد شمل المشروع أيضاً تعديل المادة (93)، إذ جعلت الاختصاص بالفصل فى صحة عضوية مجلس الشعب للمحكمة الدستورية العليا، فى حين أن محكمة النقض هى صاحبة الولاية فى تحقيق الطعون الانتخابية والفصل فى صحتها منذ سنة 1924، كما جاء نص صريح بذلك فى دستور 1930 وفى دستور 1923 بعد إعادة العمل به، كما صدر القانون رقم 141 لسنة 1951 بإسناد الفصل فى الطعون الانتخابية وصحة العضوية إلى محكمة النقض، وأن رأيها فى الطعن الذى حققته هو القول الفصل فى النزاع، وهو ملزم لمجلس الشعب، وإذ كان قد رئى أن يعلق تنفيذه على صدور قرار من مجلس الشعب بأغلبية الثلثين فهذا القرار لا يعدو أن يكون قراراً تنفيذياً. وقد جرت تصريحات صادرة من كثير من أعضاء مجلس الشعب أو رئيسه فى السنوات الأخيرة على أن أحكام محكمة النقض فى شأن الطعون ملزمة للمجلس، بل إن المحاكم كانت تحكم بالتعويض التزاماً بحجية (رأى محكمة النقض الفاصل فى النزاع). وهذا الحكم الوارد بالمشروع فى تلك المادة جاء ليثير الجدال- الذى قد يتحول إلى فتنة- بين الهيئات القضائية المختلفة، فلا يتصور أن ينزع الاختصاص من محكمة النقض التى يبلغ عدد مستشاريها 500 عضو، واكتسبت خبرة فى تحقيق الطعون الانتخابية على مدى أكثر من 60 عاماً، ويعطى للمحكمة الدستورية العليا التى لا يصل عدد أعضائها إلى عشرين عضواً، وهو الأمر الذى أثار الكثير من الجدل وحدا بمجلس القضاء الأعلى إلى الدعوة لعقد جمعية عمومية لمناقشة التعديلات المقترحة والتى تؤدى إلى تقليص سلطة محكمة النقض مع تاريخها الحافل فى هذا المجال، وهو ما قد يثير فتنة نحن فى أمس الحاجة إلى ألا تثور فى مثل هذا الوقت الذى نأمل أن نصل بمصر فيه إلى بر الأمان فى أسرع ما يمكن. ولعل الظروف الأمنية المتردية فى مصر الآن تستوجب عدم إثارة النزاعات بين الهيئات القضائية فى ذلك الوقت البالغ الخطر، بل يجب مع ماضيها الحافل- قضائياً وبرلمانياً- أن تستمسك بالتقاليد العريقة التى جعلت من مصر- دائماً وأبداً- منارة بقضائها الشامخ وأحكامه وتقاليده الواجبة الاحترام. * وزير شؤون مجلس الوزراء والمتابعة السابق