مونديال السويد 1958.. ثلاثة «زنوج» متمردون يفوزون بكأس العالم

تقرير قصير من ثلاث صَفحات على مَكتب رئيس الإتحاد البرازيلي لكرة القدم قبل سفر المنتخب إلى مونديال السويد 1958، تقريرٌ يُوصي بعدم الاستعانة ب«السود» في البطولة الكروية، لأنهم «سيكونوا أكثر اشتياقاً لبلادهم» «لن يتحملوا المواقف الصعبة» «لن يتكيفوا على مناخ أوروبا البارد».
قبلها بثماني سنوات كان هُناك طفلاً صَغيراً في التاسعة من عمره يدعى إديسون أرانتيس دو ناسيمنتو، رأى والده يبكي بحرقة أمام الراديو الذي يأتي منه صوت المُذيع وهو يعلن خسارة البرازيل نهائي مونديال سنة 50 أمام أوروجواي في «ريو دي جانيرو»، احتضنه الابن، ثم أخبره أن «يوماً ما سأحضر هذا الكأس من أجلك».
لاحقاً، انضم هذا الطفل لنادي «سانتوس»، ولعب في الفريق الأساسي وهو في الخامسة عشر من عمره، مُنِحَ اسم شُهرة أبسط قليلاً: «بيليه»، وتقرير قصير من ثلاث صفحات على مكتب رئيس الإتحاد البرازيلي كاد أن يمنعه من تحقيق الوَعد الذي قَطعه لوالده صغيراً.
ولكن ما حدث في ذلك الصيف البعيد أن «السود»، أو «الزنوج» بأوصافٍ أكثر صراحة وأقل رسمية، انضموا للمنتخب، على أن يتم وضعهم على مقاعِد البدلاء: فتى ال17 عاماً «بيليه»، ومعه جناح أيمن عظيم نصف مجنون يُدْعَى «جارينشا»، وأخيراً ارتكاز دفاعي سَبْقَ زمنه بعقودٍ اسمه «ديدي».
جَلَسَ الثلاثة على مقاعد الاحتياط لصالح لاعبين «بيض» في المباريات الأولى لبلادهم في مونديال السويد، وبدأت البطولة، بحضور 12 منتخباً أوروبياً، و4 منتخبات من أمريكا: الأرجنتين، المكسيك، باراجواي.. إلى جانب منتخب برازيلي بلا «زنوج».
كانت الأنظار تتجه نحو الألمان، حَمَلة اللقب، السوفييت أو اليوجوسلاف، المجريين، ولم تَلفت البرازيل الأنظار في المباريات الأولى التي لعبتها بحفنة رجال من البيض.
اللحظة الأهم في هذا العام، وواحدة من أهم وأخلد اللحظات في تاريخِ الكرة، كان قرار التمرُّد الذي قاده ثلاثة زنوج برازيليين ضد مُدرّبهم للدفعِ بهم في التشكيلة الأساسية للفريق على حسابِ البيض، وهو ما نال قبولاً من باقي زملائهم، خاصة بعد الأداء المتأرجح في المباريات الأولى.
الحصاد المبدئي كان إحراز الفتى الصغير «بيليه» لهدفِ الفوز الوحيد ضد منتخب «ويلز» في دور الثمانية، وكان واحداً من أجمل الأهداف التي رآها الناس، في بروفة بَسيطة لمهارته الاستثنائية التي سيتعرف عليها العالم بعد ذلك، ليتأهل الفريق للدور قبل النهائي، الذي جمعه مع ثلاث فرق أوروبية: منتخب سويدي يُنشِئ مُعجزته الخاصة نحو الفوز بكأسٍ يُقام على أرضه، مستغلاً حماس الجماهير رغم ضعف الإمكانيات، ومنتخب ألماني وافِر الحظ في الاحتفاظِ باللقب، ومنتخب فرنسي ليس سَهلاً.
السويد استمرت في مغامرتها وفازت على ألمانيا في الدقائق العشر الأخيرة 3-1، في حضور 50 ألف مُتفرج شديدي الفخر بفريقهم الذي يُحقق إنجازاً استثنائياً بهدوءٍ شديد، أما على الناحيةِ الأخرى.. «كان على المشاهدين أن يفركوا عيونهم ليصدقوا أن ما يحدث ليس حلماً، وأنه فعلاً من نفسِ الكوكب» كما وصفت جريدة «وورلد سبورت» ما حدث في مباراة البرازيل وفرنسا.
وحتى بعد ما يزيد عن نصفِ قرن، ربما يجب علينا أن نفرك عيوننا لنصدق ما نراه ونحن نُشاهد ما فعله البرازيليون في تلك المباراة، «كانوا في الحقيقة يرقصون»، «شيئاً عن كرة القدم لم يعرفه العالم من قبل»، وكل ذلك بفضلِ ثلاثة زنوج قدموا كل ما يستطيعونه، ورغم تألق «بيليه» وتسجيله هاتريك، وعَظَمة «جارينشا» على اليمين الذي صَنَع ثلاثة أهداف أيضاً، إلا أن النجم الحقيقي للمباراة كان «ديدي»، لاعب الوسط الذي فعل كل شيء في كرة القدم، وهدفه في المباراة، من هذه المسافة، بتلك الدقّة، مع كرة بهذا الثقل.. تبدو برهاناً دقيقاً عن أي لاعب كانه.
بعد مباراة فرنسا، صار واضحاً أن ما من منتخبٍ في العالم يمكنه الوقوف أمام البرازيل، ورغم 52 ألف مُشجّع للسويد في المُدرجات، وتقدّم أصحاب الأرض بهدفٍ في الدقيقة الرابعة، إلا أن الجميع كان يُدرك أن فوز المنتخب، الذي صار في تلك اللحظة مُنتخب الزنوج، مسألة وقت، «ديدي»، «جارينشا»، «بيليه»، ومعهم «زيتو، زاجالو وفافا» جعلوا من كرة القدم شيئاً أمتع وأبسط كثيراً مما عرفه كل الناس قبل ذلك، في واحد من أعظم مُنتخبات الكرة في التاريخ.
وحين حَلّت الدقيقة 55.. واستلم بيليه الكرة على صدره.. رفعها من فوق المُدافع السويدي.. ثم شاطها في المرمى قبل أن تَلْمَس الأرض، عَلِمَ أنه حقَّق للتو وَعده القديم لوالده، وأحضر كأس العالم من أجله.