1-«المرض لا يمثل مشكلة صحية لأنه لا يصيب سوى قاطني القرى بسبب العوامل المساعدة على ذلك كالفقر وعدم توافر عوامل تهوية جيدة للمنازل، ولذلك نسبة الإصابة بالصعيد أكبر من الوجه البحري». هكذا رد الدكتور سميح جلال، مدير إدارة الجذام بوزارة الصحة، على الزميلة عزة مغازي عندما واجهته بالحقائق المفزعة التي توصلت إليها حول انتشار المرض في الصعيد، بعد أن هدد بملاحقتها وملاحقة جريدتها قضائيًا في حالة نشر الموضوع. حسنًا. المرض لا يصيب سوى الفقراء ولن يخرج من الصعيد. فما الداعي للقلق إذن؟ 2- التحقيق الصحفي المهم حول عودة الجذام كشفنا أمام أنفسنا. اتضح أنه بينما ننشغل بأسئلة من نوعية: هل سيترشح السيسي للرئاسة أم لا؟ ومن ستكون له الغلبة في البرلمان المقبل؟ وما الحكم الذي يمكن أن يصدر ضد مرسي؟، تتساقط أطراف المئات من أهلنا في قرى الصعيد المنسية دون أدنى انزعاج من الحكومة المركزية في القاهرة، ودون أدنى اهتمام من القوى السياسية والشبابية الغارقة في القضايا الفوقية. أمام مستشفى الجذام بقنا يقف العشرات يوميا طالبين الدواء. يتعامل الجميع معهم بحذر يصل إلى حد «الجليطة» والإهانة، يرمي الموظف بأشرطة الدواء من شباك الصرف حتى لا يلامس جلد المريض، ينهره بشدة إذا أمسك بيديه حديد الشباك، يجد المريض صعوبة بالغة في الانحناء لالتقاط الدواء من على الأرض متحاملًا على أطرافه التي نهشها المرض، ونفسه التي أذلتها الحاجة. مدير المستشفى من ناحيته لم يدخر جهدًا، لا لوقف انتشار المرض وعلاج المصابين به، لكن لفرض غطاء من السرية حوله، فاعترض على وجود الصحفية داخل المبنى، ورفض الإدلاء بأي تصريحات لها حول إصابة نحو ألفي مريض بالمرض اللعين، الجذام، في الفترة الأخيرة فقط. لو تستخدم الدولة الجهد الذي تبذله في التعتيم على المشكلات، في البحث عن حلول لها لما بقيت في مصر مشكلة واحدة. 3- أطفال لم تتجاوز أعمارهم بعد السنوات العشر يقضي عليهم المرض بالتدريج بعدما انتقلت إليهم العدوى من آبائهم، توقفوا عن الذهاب إلى المدرسة بقرار من الإدارة خوفًا انتقال المرض لزملائهم، فأصبحوا طريحي الأرض في منازل لا تتوافر فيها أدنى مقومات الحياة، وفي سنوات يفترض أن تكون الأكثر فرحًا وانطلاقًا في حياتهم. يفهم بعض المسؤولين الاهتمام بالطفولة بأنه زيارة إلى دار أيتام أو مستشفى 57357، وصورتان مع أطفال منتقين بعناية في غرف فندقية تملؤها البهجة، بجوار ممرضات تعلو وجوههن الابتسامة، وبعدها يعودون إلى منازلهم قريري العين بعد أداء واجبهم الإنساني تجاه الطفولة المشردة. كما يتساقط شعر طفل في القاهرة تتساقط أصابع طفل في قنا، كلاهما يستحق الرعاية والتعاطف والعمل، كلاهما بحاجة للمسة حانية لا تجعل آلام التجاهل والدونية تضاف إلى آلام الجسد، كلاهما بحاجة إلى عمل جاد لإنهاء معاناتهما، لكن أن يستحوذ طفل منهما على هامش الاهتمام اليسير المتاح ويُحرم الآخر منه تمامًا، فهذه انتهازية فجة ووضع مختل. أطفال الصعيد مصريون، ومن حقهم حياة آمنة تحميهم من المرض وعلاج كريم حقيقي إذا مرضوا، هذه مسلّمات كما أن الشمس تشرق من الشرق، ربما نتناقش في تفاصيل من نوعية جودة التعليم المقدمة لهم أو كيفية استبدال كتبهم المدرسية ب«تابلت»، لكن الحق في الحياة الكريمة والعلاج المناسب مرحلة تجاوزتها كل كواكب درب التبانة. تلك الكراهية التي نضعها في الأطفال المرضى وفي المحيطين بهم تجاه وطن ينتمون إليه اسمًا ويدير إليهم ظهره فعلًا- لن نعرف عواقبها إلا عندما يتحولون إلى أدوات في يد جماعات الإرهاب والتكفير والكراهية، وعندها سنصلح خطأنا في حقهم عندما تركناهم فرائس للفقر والمرض والجهل. سنقتلهم ونفتخر. 4-«إدي ضهرك للترعة» ليس مجرد إعلان توعوي بل هو أسلوب حكم وحياة. أعربت الحكومات المصرية عن نواياها مبكرا تجاه الشعب عندما تبنت هذا الإعلان لمواجهة البلهارسيا، حضرتك كمواطن صالح لا تطلب من الحكومة تطهير المجاري المائية، ولا تسأل عن الإجراءات التي اتخذتها لمواجهتها، ولا تتحدث عن مصير الفلاحين الذين تصل المياه إلى أقدامهم وهم يروون أراضيهم. حسبك نفسك. لا تنزل أنت الترعة ودع ما بها بها، وللآخرين رب يحميهم. هكذا تتعامل الحكومة الآن مع أزمة الجذام، تحاول منع القضية من الوصول إلى الإعلام، تمنع موظفيها من التواصل بشكل مباشر مع المرضى، تطالب المحيطين بالمرضى بأن يعطوا ظهورهم لهم، ربما يموت المرضى الحاليون ولا تحدث إصابات جديدة فتنتهي المشكلة. إذا كانت الحكومة ترتضي هذه الصيغة المريحة فنحن نرفضها ونطالبها بتقديم العلاج اللازم للمرضى، وإقامة مستعمرات مناسبة لهم تتوافر فيها مقومات العيش الآدمي والعلاج الكريم، ونشر برامج للتوعية بالمرض والوقاية منه وطريقة التعامل معه ومع المصابين به، وتوفير مراكز للفحص يلجأ إليها من تظهر عليهم أعراض المرض لاكتشافه في مراحله الأولى. كل ما سبق مجرد مسكنات للتعامل مع المرض، يستلزم أن يقترن بها علاج طويل المدى تنظر خلاله الحكومة إلى الصعيد باعتباره جزءا من الوطن لا زائدة دودية في جسده، وعليه يكون الجنوب حاضرا في برامج التنمية ومكافحة الفقر وخطط التطوير والمشروعات الخدمية والاستثمارية. يمتلك الصعيد كل الأسباب ليطلب الانفصال عن الوطن الأم لكن أهله الأصلاء الطيبين لا يفعلون ذلك ولا يفكرون فيه ويصبرون على ما هم فيه صبر الجِمال، فلا يجب أن نقابل طيبتهم بمزيد من التجاهل أو أن نراهن على صبرهم إلى الأبد.