طالعت أمس الأول فى صحيفة «المصرى اليوم» خبرا، صغير الحجم كبير المعنى، نصه كالتالى: «قرر المهندس عاطف عبدالحميد، وزير النقل، إلغاء تنفيذ كوبرى على طريق إسكندرية الصحراوى بسبب وجود شبهات حول ربطه بفيلا أحمد نظيف بقرية وادى النخيل السياحية، وطلب الوزير إعادة النظر فى جميع المشروعات التى أضافها وزير النقل السابق على طريق إسكندرية الصحراوى الذى يتم تحويله حاليا إلى طريق آخر». وقد فسر المهندس محمود عزالدين، رئيس هيئة الطرق والكبارى، الأسباب التى دعت الوزير لاتخاذ هذا القرار، وذلك على النحو التالى: 1- أظهر المسح أنه يتوسط كوبريين يبعد كل منهما عن الآخر 5 كيلومترات فقط. 2- أنه لم يكن ضمن التخطيط الأصلى وتمت إضافته العام الماضى ليربط منتجعات وادى النخيل بالطرق الخدمية. 3- أن تكلفته المبدئية تبلغ حوالى 40 مليون جنيه، صرف منها حتى الآن مبلغ مليون ونصف مليون جنيه، هى تكلفة عملية دق الخوازيق الحديدية، وأن هذا المبلغ سيتحمله المقاول وليس الدولة. المعلومات المتضمنة فى هذا الخبر تعنى، وبصراحة شديدة: 1- أن النظام السياسى السابق تعامل مع المال العام باعتباره مالا سائبا لا صاحب له ولا رقيب أو حسيب عليه. 2- أن رئيس وزراء مصر السابق سمح لنفسه أن يغرف من هذا المال السائب لإرضاء نزوات وشهوات شخصية تبدو غريبة وغير طبيعية. 3- لم يكن أى مسؤول ليجرؤ على تصرف من هذا النوع ما لم يكن على ثقة تامة بأن «رب البيت بالدف ضارب». سبق لى أن كتبت فى هذه الزاوية عن صور فساد كثيرة دون أن يخطر ببالى قط أن التسيب والاستهتار الفاجر وصل إلى هذا الحد، فعندما يطاوع قلب رئيس حكومة دولة، يفترض أنها فقيرة ومحدودة الموارد، لإنفاق 40 مليون جنيه من المال العام لإقامة كوبرى «خصوصى» حتى لا يضطر جنابه إلى قطع مسافة تقل عن خمسة كيلومترات على الطرق الجانبية، بدلا من إنفاقها فى بناء مدارس أو مستشفيات أو جامعات، يسهل حينئذ أن ندرك طبيعة النظام الذى أفرز هذا النوع من رؤساء حكومات تبدو أقرب إلى عصابات مافيا منها إلى حكومات دول. وعندما يحاول الإنسان أن يتعمق فى دلالة سلوك يبدو فى مظهره شاذاً إلى هذا الحد، سرعان ما يكتشف أنه نمط سلوك طبيعى لمسؤول تنفيذى فى نظام سياسى يبدو مسخرا بالكامل لصالح حفنة من «رجال أعمال» يتسابقون فى نهب ثروات البلاد والاستيلاء على مقدراتها، فالمسؤول هنا لم يمد يده إلى المال العام ليسرقه ويضعه فى جيبه وإنما استخدم سلطته ليوفر لنفسه نمط حياة يتفوق به على أغنى الأغنياء من حوله! فى كل يوم يمر، خاصة بعد 25 يناير، يزداد شعب مصر العظيم يقينا بأن ثورته هى ضرورة حتمية، وأنها كانت السبيل الوحيد لبناء دولة عصرية يحكمها القانون. وللأسف، فإن حكومة أحمد شفيق، التى خرجت من تحت عباءة النظام القديم، لاتزال تعمل بنفس عقليته. ويكفى أن نفحص طريقة هذه الحكومة فى التعامل مع مئات الألوف من فقراء مصر الهاربين من جحيم القذافى والعالقين على الحدود الليبية - التونسية وفى أماكن أخرى، الذين يعانون الجوع والبرد لأيام طويلة، لندرك حجم الهوة التى تفصل بين الحكومة والشعب فى مصر، والتى ستظل تفصل بينهما إلى أن تتمكن الثورة من تحقيق أهدافها كاملة. فالرجل الذى تمكن من صنع مطارات جميلة وفخمة تفتخر بها مصر وتعد إنجازا يحسب له ليس بالضرورة هو الرجل القادر على إدارة أزمة بحجم تلك التى يواجهها العمال المكدسون على الحدود مع ليبيا. فالحاجة تبدو اليوم ماسة إلى عقلية سياسية تدير المرحلة الانتقالية بحنكة وتجرد وليس إلى رجل سوف نحتاج أمثاله حتما فى معركة البناء التى لم تبدأ بعد. لذا أطالب شعب مصر بأن يصبر قليلا وأن يتحمل بعض الشىء حتى لا يتيح فرصة للانتهازيين كى يسرقوا منه الحلم بدولة يسودها القانون بدلا من الغابة التى لايزال يعيش فيها حتى هذه اللحظة. فتمسك يا شعب مصر بحلم التغيير الذى نسجته ثورتك، التى صنعتها أنت ويحاول أحمد شفيق وغيره من رموز النظام القديم الالتفاف حولها وإجهاضها. ولأن تشكيل حكومة مستقلة تتمتع بصلاحيات كاملة لإدارة المرحلة الانتقالية هو الخطوة الأولى على طريق تحقيق هذا الحلم، فآمل أن يتمسك شعب مصر العظيم بإقالة حكومة أحمد شفيق، بل أرجوه أن يبادر هو شخصيا بتقديم استقالته، لإفساح الطريق أمام الثورة لتنظيف المكان قبل أن تبدأ البناء. ملحوظة: المقال أرسل إلى الصحيفة قبل التعديلات الأخيرة.