مما لا شك فيه ان ثورة يناير برغم من قسوة كثيرا من احدثها ومرارة مناظر الدم والقنص والموت الذى طال ريعان شباب مصر وبالرغم من تداخل خيوطها ستظل دوماً شرف وتاج فوق رؤوس المصريين جميعاً وأنا واحداً منهم كونها أستطاعت إزاحة نظام مبارك الذي ظل جاثماً علي صدرونا ما يزيد على ثلاثون عاماً وإن كنت أري أن النظام لم يرحل بأكمله فهناك جذور لبقايا المخلوع تحتاج لاستئصال وهو طبيعي يحدث في كل الثورات حيث لا تستطيع ثورة أن تجتث كل الفساد مرة واحدة وانما يحدث ذلك علي مراحل تعتمد علي اصرار أصحابها وقدرتهم الجذور العفنة من الارض الطيبة فى مثل هذه الأيام وتحديداً في 25 يناير ، قررت الذهاب لميدان التحرير للمشاركة في الفعاليات التي دعت لها جموع الشباب والقوي الثورية تنديدا بفساد الحكم وتسلط الشرطة واستبداد النظام فتوجهت الى ميدان التحرير وكانت تحديداً الساعة الثانية عشرة ظهرا وعندما وصلت لم أجد سوي مدرعات وجحافل للأمن المركزي تملأ ميدان التحرير الذي خلا تماماً من المدنين عندها شعرات بشئ من الاحباط و خيبة الأمل. لكن سرعان ما تبدل الاحباط إلي الأمل عندما وجدت أثناء عودتي بشارع القصر العيني وتحديداً أمام روزا اليوسف آلاف الشباب يتجهون إلي التحرير وجدت نفسي اهرول نحوهم واهتف معهم عيش حرية عدالة اجتماعية وبعدها بدقائق معدودة فرقتنا القنابل المسيلة للدموع ورصاص الداخلية لبعض الوقت لكنها في الحقيقة كانت بداية ارتباطنا فيما بعد. استمر اليوم بين الكروالفر مع الشرطة داخل وخارج الميدان حتي انتصف ليل الخامس والعشرون وبعد ان قررنا الاعتصام بداخله لم تمهلنا خراطيم المياه التى استبدلت بالخرطوش ومعه القنابل المسيلة للدموع التى بدات قوات الشرطة فى اطلاقها علينا بشكل لم يسبق له مثيل و وجدت نفسي في باب اللوق بين الشوارع مع عدد من النشطاء لا أعرفهم حاولنا التقاط انفاسنا علي أحدي المقاهي حتي أذان الفجر الذي قمنا بصلاته في مسجد بمنطقة وسط القاهرة انتهي 25 يناير بنجاح لم نتوقعة وهو اتفاق الجميع علي الصمود وتحرير الوطن واسترداده من مغتصبوه في اليوم التالي وهو الأربعاء الموافق 26 يناير توجهت الي نقابة الصحفيين بناء علي دعوة من الزملاء العمل وقفة احتجاجية لانتهاكات الشرطة وبالفعل اصطففنا علي سلام النقابة فى مواجهة جحافل الداخلية التى طوقت المكان تماما واحتجزتنا الى مساء هذه الليلة بعد سحل عدد من الزملاء أمام النقابة علي مراي و مسمع العالم اجمع . الخميس كانت بمثابة استراحة محارب كما قال النشطاء وجاء يوم الثامن والعشرون حيث اتفقت مع الزميل محمد مبروك الصحفي بالجمهورية علي المبيت في شقتي بمنيل الروضة وكنا قد تجهزنا بالمستلزمات البسيطة وهي الكاب والعلم وبعض الخل للتغلب علي قنابل الغاز لم ننم هذه الليلة ظللنا نتحدث عن توقعاتنا وبعد ان دقت الساعة الثامنة والنصف صباحا توجهنا إلي ميدان التحرير ووجدناه مغلقا من كافة النواحي فتحركنا إلي كورنيش النيل في محاولة للدخول من ناحية مسجد عمر مكرم وما ان اقتربنا من المسجد وجدنا انفسنا محاطين بعشرات من الضباط والجنود وقاموا بالقبض علينا واحتجازنا بجوار المسجد وبدأت الاسئلة الكلاسيكية "انتم مين وجاين تعملوا ايه؟" هذا غير السخرية والتهكم فاجابنا نحن صحفيين وجئنا في مهمة عمل وتغطية الأحداث وبعد اطلاعهم علي كارنيهات النقابة اطلقوا سراحنا بعد بعثرة جميع الاوراق الخاصة بنا و الكارنيهات علي الأرض وعندما طالبنا منهم السماح لنا بصلاة الظهر في مسجد عمر مكرم اجابنا ضابط برتبة عميد شرطة ان المسجد ترميمات ويحتاج إلي إصلاحات مشددا علي ضرورة ان نكتب ذلك في تقريرنا الصحفي ، فتركناه وتوجهنا الي منطقة وسط البلد تحديدا وصلنا الي شارع شمبيليون وكانت أعداد المصلين داخل المسجد بسيطة لا توحي بالاستعداد للمظاهرات وفور انتهاء الصلاة كانت البداية الكبري الشارع اكتظ في لحظة بآلاف المتظاهرين وأصوات الرصاص وقنابل الغاز استطاعت أن تمحو الرؤية تاماً وافترقت مع مبروك ووجدت نفسي داخل عمارة لا استطيع التنفس وشعرت بانني اختنق لكن الخل جعلني انتفس افضل ومن المفاجات الغريبة انني وجدت مبروك بجواري ظللنا أكثر من ساعة داخل العمارة ومعنا العشرات المتظاهرين والأمن لم يقطع غازه ورصاص عن مدخل العمارة. استطعنا الخروج بعد أن ساعدنا السكان بالخل والماء حيث ابصرنا الطريق وتحركنا فى اتجاه التحريرفشاهدنا منظرا أقل ما يوصف به مكان لموقعة حربية ولم نستطع الدخول حيث عدنا الي الشوراع الجانبية التى لم تكن اقل زخما ثوريا وتعالت الأصوات "الشعب يريد اسقاط النظام"، مر الوقت في يوم 28 يناير مجددا في كر وفر بين الشرطة و الشعب وكانت اللحظة الحاسمة في تمام الخامسة مساءاً ونحن نتناول المياه من داخل جريدة المساء وبعد تراجع قوات الأمن ظهر لواء بزيه الميرى يشير لقواته الانسحاب ويطلب من المتظاهرين التقدم ناحيتة فى شارع رمسيس فى هذه اللحظة كان الهتاف الله اكبر الله اكبر تدوى فى المكان بشكل يظهر روح وعزيمة المصريين حمداً علي اكتفاء الشرطة بقمع المتظاهرين وافساح المجال لهم للتعبير عن انفسهم لانها أوطانهم وحياتهم وإن كان هذا فى بدايته يشيرالى ان الشرطة تنضم للشعب إلا أننا علمنا بعدها بايام قليلة انهاخطة أمن دولة لاخماد الثورة بشكل أكثر دهاءا ومكراً. تحركت مع الثوار واحتفلنا بالميدان وظللنا ساعات نهتف مصر مصر مصر ،ثم توجهنا الي مقر الحزب الوطني الذى ظهرت نيرانه من بعيد وتصاعدت ادخنتها وسط فرحة المتظاهرين بسقوط مقر الفساد. كانت هناك مشاهد سلبية لا انركها وهي اعتداءات متفرقة من الأهالي علي من يجدونه من الداخلية وانتشار بعض البلطجية للسطو والسرقة وسرعان ماانتبه المتظاهرون لهذه الامور وبداوا فى حماية المنشات العامةوالمصالح الحكومية قضينا هذه الليلة بالميدان للصباح وذهبت إلي منزلي مع بذوغ شمس اليوم التالى عدت بهد ظهر التاسع والعشرون الى التحريرو في هذه الفترة والتى رافقنى فيها زملائى خليفة جاب الله وأيمن هريدي الصحفيون في المصري اليوم بالنزول من الجريدة يوميا بعد أداء عملنا إلي الميدان للمشاركة في الثورة دونما العمل كما ذكرت ، وكنا نأخذ من نقابة الصحفيين مقرا للصلاة وتناول الطعام وبعض الراحة إضافة الي الأطلاع علي أخر الأخبار عن طريق الصحفيون وتليفزيونات النقابة . تعودنا أنا وخليفة وأيمن علي التحرك معا بشكل دائم كنا نبيت داخل الميدان حتي الصباح ونذهب قبل موعد الجريدة الي منازلنا احيانا و احيان اخري كنا نتوجه مباشرة إلي الجريدة ثم الميدان وهكذا يومياً . أيام وليالي لا تنسي من حيث التفاعل والمعاملة التي كانت راقية ومتحضرة بين المتظاهرين فالألفة والمودة والسعادة في خدمة الأخر ابرز ذكريات الثورة تجد الشباب يتجول لمساعدة المرضي والمحتاجين وتقديم الاغذية والبطاطين والمياة والأجمل من كل ذلك هو الشكل الحقيقي للعلاقة بين المسلمين و المسيحين التى ظهرت بوضوح فى اشكال متعدده منها حماية المسيحيون لنا اثناء الصلاة ومساعدتنا على الوضوء قبلها وايضا توفير المسلمين المكان لاقامة بعض مظاهر القداس والصلاة من جانب اشقاءنا الاقباط أيضا الذوبان الفكري والروحي بين الطرفين اكد علي الحب العميق والاحساس بالوطن الواحد الذي طالما حاول قتله نظام مبارك الذى الف عبارته الشهيرة "الفتنة الطائفية" التي تبددت هواجسها تماماً لكل من عايش ثورة يناير العظيمة. كانت اصوات طلقات الرصاص وقنابل الغاز والغزوات التى شنتها قوات حبيب العادلى علينا تفزعنا فى بداية الاعتصام لكن اصبحت شئيا عاديا من طقوس اليلة ونهارها ونظم الثورا انفسهم بشكل عبقرى حيث التمكن من اغلاق الميدان امام البلطجية والامنجية بواسطة اللجان الشعبية التى تمركزت على جميع مداخل التحرير ايضا كان هناك مايسمى بالندورجية التى تمثلت مهمتهم فى الابلاغ عن غزو الامن للميدان اضافة الى المخبرين الثوار الذين استطاعوا القبض على عناصر الداخلية التى تواجدت بالمكان لرفع تقارير الى قيادات الشرطة فى محاولة لضرب الثورة وهناك أيضا مصاعب لم أنساها أبدا فمثلا أثناء خروجنا من الميدان تجاه كورنيش النيل من ناحية عبدالمنعم رياض فجاة وجدنا أنفسنا محاطون بعدد من البلطجية والمسجليين حيث يبدو على ملامحهم القسوة و علي وجوههم الكابة والفجور والغريب أن احدهم بادرنا بالسؤال أنتم مع مين فقلنا أننا نعمل في محال تجارية وخارجون الي منازلنا فتركونا برغم أن الطبيعي لاي بلطجي القيام بسرقة مايجدوه من موبايلات ونقود وغيرها وهذه مالم يحدث وهو مايوكد أنهم يعملون مع الثورة المضادة ولديهم تعليمات لتهديد الثوار ومنح السلم لمن عاداههم. تعودنا علي تضليل البلطجية بزعم اننا عمال بالمحال التجارية بناء علي نصيحة أحد ضباط الجيش الذي قابلنا في أحدي جولاتنا خارج التحرير فجرا وقال لنا لماتقابلوا بلطجية قولوا لهم اننا من ثوار وبنشتغل علي باب الله من أبرز الاحداث التي ستظل عالقة بالذهن يوم الاربعاء 2-11 الذي سمي بموقعة الجمل فالصباح جميل والمتظاهرون مستمرون في فعالياتهم مابين الهتاف والدعاء وتضميد وعلاج المرضي وفجاة تتبدل الاحوال داخل التحرير حيث وجدنا غزو للميدان من ناحية عبدالمنعم رياض بواسطة الجمال التي يقتادها أشخاص بيدهم "كرابيج" استخدموها لشق طريق وتفريق المتظاهرين وامتلي الميدان بالوافدين وسياطهم وتعالت أصوات السيدات والاطفال "الحقونا" وحدث موقعة الجمل التى كانت بين انصار المخلوع ورجال مصر و بفضل الله وثوار المحروسة جاء النصر بعد ان استطاع المتظاهرون القبض علي بلطجية فتحي سرور وصفوت الشريف وذبانية الوطنى المنحل وأعوانهم من شياطين الانس الذين امتطوا الجمال وشعرالمحتلون بالفزع والخوف فهرولوا مسرعين للافلات فمنهم من استطاع واخرون اصبحوا رهن الاسر واصبح مقرهم أمام الباب الرئيسي لمجمع التحرير في مساء هذه الليلة كانت الامور قد اتضحت تماما وهي أن خطاب المعزول الذي سبق هذه الليلة والذي لعب علي عواطف شريحة من المصريين كان جزءا من مؤامرة لاخلاء الميدان بواسطة البلطجية لكنها اصطدمت باحرار وعناد فراعنة لطالما أعطوا دروسا في التضحية ودفع الدماء فداءا لاوطانهم كنا نتسامر ليلا مع عم محمود صاحب قعدة الشاي بجوار المجمع الذي كثيرا ماكان يرفض أن ياخذ ثمن الشاي لمن يتردد عليه أكثر من مرة ليلا ويقول أنا جاي علشان أتظاهر مش علشان أكسب فلوس ومايهمنيش غير مصر . المستشفيات الميدانية لاتنسى ابدا فالاخلاص والوفاء والروح الرائعةالتى بدت على جميع من بداخل المكان من اطباء احرار كانت تؤكد ان الانتصار قادم لامحال فالاصرار والعزيمة والتضحية ليس لهما جزاء من عند الله الا التوفيق طالما كانت خالصة لوجهه سبحانه وتعالى فبرغم بشاعة المناظر داخل المستشفيات الميدانية من دماء واجساد ممزقة وعيون مقنوصة ورصاص يظهر فى بطون ورؤؤس الرجال والفتيات الا ان الهدف كان اسمى واعظم من كل ذلك نعم مصر كانت وبقت اغلى من ارواحهم الطاهرة الذكية التى ستظل نبراسا نهتدى به الى طريق الحرية والكرامة كانت الامنيات كبيرة والاحلام جميلة تدور في فلك مصر الحرية المدنية التي يرغب أبناءها في اعادة أمجادهم من اذدهار وتقدم بديمقراطية حقيقية بعيدا عن الشمولية والاستبداد حتي جاءت لحظة تنحي مبارك في مساء 2 نوفمبر والتي مهما تحدثنا عنها لن نستطيع وصف مشاعرنا ومنها من فرح ودموع وتكبير بميدان التحرير والمنطقة المحيطة به كموقع لانتصار ثوار علي علي حاكم ظالم في حدث تاريخي لم يكن هناك مكان لقدم تشابكت الاجساد وتعانقت الارواح وكان الصوت مدويا "ألشعب أسقط النظام ".