مَرَّ علينا حينٌ من الدهر ونحن مستمسكون بالمسكنة والصبر، ثم انفجر فينا الغضبُ المكتوم، واستعلن الصدام بين الإرادة المصرية (الشعبية) الطامحة إلى التغيير والخلاص من الذُّلِّ، والإرادة السلطوية (الرئاسية) الطامعة فى مزيدٍ من مَصِّ دماء البلاد: إما إلى أبد الآبدين، أو إلى حينٍ (حتى يتمكنوا من إغلاق ملفات الفساد للإفلات من العقاب، وحتى تتمكن من تسريب ما تم سلبه من أموال البلاد والعباد).. ومثلما مَلَكَ «مبارك» زمام البلاد قبل ثلاثين عاماً، فلتةً، تنحَّى قبل أيامٍ قليلة، فجأةً، تاركاً أذناب نظامه متأرجحين تحت وطأة الضربات الشعبية الهائلة، السِّلمية، التى روَّعت النظام السابق واسترعت أنظار العالم أجمع، وأعطت للشعوب الحرة درساً فى «الثورة». ورحل الرئيس المصرى من دون كلمة وداع، بعد ساعات من ادعائه العلنى بأنه لن يترك مصر حتى يموت فيها ويُدفن فى ترابها، لأنه هو الذى خَدَمها بإخلاص (!) ورفع عَلَمها على سيناء (!) ولم يكن يوماً طالب جاهٍ ولا سلطان (!) إلى آخر ما أذاعه على الناس، فلم يجد منهم آذاناً صاغية، ولم تزدهم كلماته إلا إصراراً على خَلْعه الذى كان شبيهاً بانقلاع ضِرْسٍ متجذِّر منذ عقود، هى الثلاثون عاماً (المباركية) على قول، وعلى قولٍ آخر: هى الستون عاماً (الضباطية الأحرارية). وقد انقلع الضرسُ بعدما استنفد كل حيل البقاء، وكأنه كان يختبر صدق الإرادة الشعبية فى التغيير، ويتأكد من عزمها بكل الحيل الممكنة والشعارات الواهية. ولأن الجرحَ المصرىَّ لا يزال مفتوحاً فى موضع الضرس المقلوع، وفى مواضع أخرى كان الفساد قد دبَّ فيها، حتى كاد يخترق النخاع. ولأن المستقبل الجماعى، والفردى أيضاً، مرهونٌ دوماً بقدرة الجماعة والفرد على الاستفاقة والاستنارة والعمل الرشيد الناجز.. فإن الحاضر يطرح علينا اليوم، نحن المصريين، قضايا مهمة وأسئلةً محورية من نوع: هل سنفتضح أمام أنظار العالم الذى التفت إلينا مؤخراً، شرقه وغربه، وعرف أن لمصر روحاً حرة تختبئ وراء غلالة الصبر الطويل؟ أم نطرح على أنفسنا بسرعة الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالمصير المصرى ومستقبل البلاد والعباد، ونضع الخطط والتدابير الرشيدة؟ ■ ■ ■ من أسئلة «المصير المصرى» المطروحة اليوم بإلحاح: بعد الدور المشرِّف الذى قام به فى حماية (الثورة) هل سيبقى جيشنا طويلاً فى الميادين العامة وعموم الأنحاء، أم تراه سيعود فى أقرب فرصة ممكنة إلى ثكناته الحقيقية، التى هى بلا جدال: الثغور وحدود البلاد؟.. إن بقاء الجيوش فى المدن يفسد الروح العسكرية الحقة ويؤهِّل الوحدات المتماسَّة مع الناس للانحراف. ولا يريد أحدٌ منا، شعباً أو جيشاً، أن يمسَّ الفسادُ رجالَ الجيش مثلما مس بعضاً من رجال الشرطة بينما ظل الفريق الآخر يقاوم عوامل الفساد والرشوة والدعارة المقنَّعة.. ومن ثم فإن القضية الأولى المطروحة على الواقع المصرى هى: لابد من الإسراع فى إعادة بناء جهاز الشرطة المصرى، باستبقاء العناصر النقية من رجاله، بحيث يُعهد إليهم بما يجب عليهم القيام به من إقرار الأمن بربوع البلاد، حتى يعود الجيش بعد الشهور الستة (الانتقالية) لحماية الحدود والأجواء والمياه الإقليمية. إن هذه القضية (المصيرية) أكثر إلحاحاً وأهمية من تلك الفورات التى أعقبت الثورة، وسُمِّيت فى الأيام القليلة الماضية (المطالب الفئوية) بمعنى أن هناك جماعات هنا وهناك، تصخب من أجل زيادة أجورها. ومع أن هذه المطالب مشروعة إلا أنها فى غير مكانها الصحيح، ولا زمانها الواجب. وإلا، فإن بإمكان الحكومة الانتقالية (الحالية) أن تُسرع بتلبية هذه المطالب الفئوية العاجلة، بطباعة المزيد من أوراق النقد والإغداق بها على الصاخبين.. ثم يأتى التضخم بوجهه القبيح، فيبتلع الأجور والمرتبات، الأصل والزيادة، حتى يعود بنا إلى المأزق ذاته. على أننى أعتقد أن الفرج (الاقتصادى) بات وشيكاً، لأن كثيراً من الأموال المسلوبة سوف تعود. وبالمناسبة، فالواجب علينا أن نتوسل فى ذلك بألطف الأساليب والحيل، ونستعين بالأجهزة الدولية. لأن هؤلاء الناهبين لن يردوا ما نهبوه طواعيةً، ولو خُيِّروا بين فقدانه من أيديهم أو ردِّه إلى أصحابه، فسيختارون إضاعته علينا وعليهم. ليس لأنهم، فحسب، فاسدون! بل لأنهم سيخسرونه على كل حال، وسيكون ردُّ المنهوب تمهيداً لمحاسبتهم على النهب. ■ ■ ■ ومن أسئلة المصير المصرى، اليوم، السؤال عن كيفية الخروج من آثار النظام السابق، وقطع ذيوله؟.. ومعروفٌ أن كل نظامٍ سياسىٍّ، صالح أو فاسد، يفرض بالضرورة طريقته فى التفكير والأداء، ويطرح بالضرورة (الرموز) الهادفة إلى تأكيد وجوده، ويفرز بالضرورة أنماط (المعارضة) التى تناوئه بالقدر الذى يسمح به.. وما دام «النظام» المصرى قد انجلى فساده وظهر عطبه، فلا يظنَّنَّ أحدٌ أن القوى التى كانت تعارضه هى بديلٌ له. ولذلك، فإن ما كانت تُسَمَّى سابقاً (المعارضة) عليها اليوم أن تعيد بناء ذاتها، كى تتأهل للعمل العام، بعيداً عن موروثها السابق ومحاولتها قطف ثمار أشجارٍ لم تقم هى بزراعتها.. ولا أريد أن أزيد فى بيان هذه المسألة، بأكثر من ذلك. وقطع الذيول يقتضى القيام بعدة مهام، من أهمها: قيام جهاز الشرطة الجديد (النظيف) بمساعدة المخابرات العسكرية (القديرة) بملاحقة وضبط أولئك الذين اصطلحنا مؤخراً على تسميتهم «البلطجية» ومعهم الذين هربوا من السجون، والذين نهبوا الأسلحة من مخازنها.. فهى اليوم بأيديهم، ولا نعلم ماذا سيفعلون بها غداً. وقطعُ الذيول يقتضى ألا نثق ثانيةً بأولئك الذين خانوا الأمانة فيما سبق من سنوات.. ولا يعنى ذلك أن نعلِّق فى الميادين (المقصلة) أو نتخيل أننا فى يوم (الحساب) أو نبطش بيدٍ تضربُ (خبطَ عشواء) وإنما يتوجَّب علينا فحسب ألا نثق ثانيةً بهؤلاء. فمن كان منهم قد سلب مال الناس، سلبنا منه ما سلبه وحاسبناه على أفعاله، ثم نلقيه بعد ذلك فى زاوية الإهمال، من دون إمعانٍ فى التشفِّى أو الثأر (المطلق) أو الانتقام.. وغير ذلك من ردىء الأخلاق التى لا نريد لها أن تتوطَّن، وتتسرطن، فى بدن الأمة وهى على أعتاب مستقبل أكثر إشراقاً. ■ ■ ■ ومن أسئلةِ المصير المصرى، بعد حسم الأمور السابقة، أسئلة تتعلَّق بإقرار النهج العام، وضبط الأصول المجتمعية، وصياغة المبادئ الدستورية الحاكمة على النصوص القانونية واللوائح المفسِّرة.. والأمرُ هنا يقتضى بعض الإيضاح والتبيان: فى كل مجتمع، يتعامل الناس مع بعضهم البعض فى الحياة اليومية، بالأعراف (غير المكتوبة) وباللوائح التفصيلية والقوانين التى تنظم التفاعلات اليومية. والأعرافُ تفعل فعلها فى المجتمع وهى محمولة بجناحىْ (الاستحسان، والاستهجان) فمن يُراعى من الناس «الآداب العامة» يستحسن الآخرون فعله، فكأنهم بذلك يشجعون عليه. والذى يقوم بغير ما يرضاه الشعور الجمعى (مثل عقوق الوالدين أو التحرش بالنساء بغير رضائهن) يقابله المجتمع بالاستهجان. وتسمى هذه الأمور العُرفية، اصطلاحاً، بوسائل الضبط الاجتماعى (غير الرسمى) للتفرقة بينها وبين (الضبط الاجتماعى الرسمى) المتمثل فى النصوص المكتوبة: الدستور، القوانين، اللوائح التنظيمية. ويتعين علينا فى الأيام المقبلة أن نُولى قدراً أكبر من الاهتمام بهذه الأعراف (غير المكتوبة) لأنها الأصل الأعمُّ فى الضبط الاجتماعى، والصفة الأتمُّ التى تشكِّل ملامح الشخصية المصرية. وما دمنا اليوم بصدد إعادة النظر فى بعض مواد (الدستور) الذى هو «المبادئ العامة» التى منها تُستلهم وتُشتق القوانين، أو بصدد إعادة تدوينه من جديد، فإن علينا مراعاة أن الدستور وإن كان (فوق) القانون كالمظلة، فإن فوقه «أصولاً كلية» يجب أن تعلوه وتظلِّله.. فمن ذلك مثلاً أصلٌ بدهىٌّ مستفاد من خبراتنا المريرة، ومن المنطق الإنسانى العام، يدعونا إلى عدم التمييز بين مصرىٍّ ومصرىٍّ آخر، على أساسٍ من نوعه (ذكر، أنثى) أو ديانته أو عائلته أو بلدته.. فالمصرىُّ هو المولود لأبوين أحدهما، أو كلاهما، مصرى. ثم ارتضى من بعد ذلك لنفسه أن يكون مصرياً، بصرف النظر عن كونه قاهرياً أو نوبياً أو بدوياً أو ينحدر من جذور قديمة غير مصرية (شركسى، كردى، مغربى، شرقى.. إلخ). ومن الأصول الكلية التى يجب أن تظلِّل (الدستور) الإقرارُ بأن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدةٌ على الإطلاق. فلا يجوز بحالٍ السماح لأى شخص، مهما كان، البقاء طويلاً فى سُدَّة السلطة، أياً ما كانت هذه السلطة: سياسيةً أو تنفيذية أو إدارية..لأن إدمان البقاء فوق كرسى يُلصق الكرسى بالجالس ويسرِّب إلى وهمه أنه الحاكم أبداً، والملهم دوماً، والأفضل مطلقاً.. ومن هنا تأتى النكسات. ومن الأصول الكلية، ما قبل الدستورية، حظْرُ التلاعب بالأدوار. وهو الأمر الذى أدى فى السنوات الأخيرة، بل الأسابيع الأخيرة، إلى قيام بعض (الكبار) من رجال الدين الإسلامى والمسيحى، بدورٍ بائسٍ مشبوهٍ حين انهمكوا فى دفاعهم بالباطل عن النظام السابق، مع علمهم بأن ما كان يجرى فى مصر هو أمور لا يرضاها الله ولا المسيح. ولا يُرضى الله ولا المسيح، بأن يتخلَّى رجل الدين عن دوره فى هداية الناس، ليلعب دوراً فى حماية المتسيِّدين على الناس بالباطل. ومن نوع التلاعب بالأدوار، الواجب علينا حظره والحذر منه: الخلطُ بين التخصُّصات. فقد رأينا فى سنوات البؤس الماضية، لاعب الكرة وقد صار قائداً للرأى العام، والفنانة وقد صارت مفكرة وفيلسوفة، ورأينا السياحة وقد صارت نهباً ودعارة، والسياسة وقد صارت بلطجة وفهلوة وشطارة (الشاطر فى اللغة، هو الخبيث العاق).. وغير ذلك من نتائج الخلط والتداخل بين الأدوار. ومن الأصول الكلية التى يجب أن تعلو فوق (الدستور) ولا يجوز له أن يعلو عليها بنصِّه أو معانيه، الإقرار بأن الإهانة هى قرين القتل. فلا يصحُّ لمصرىٍّ أن يهين مصرياً، مهما تفاوتت بينهما أحوال المال أو مقامات العائلات. فالإهانة إزهاقٌ وقتلٌ للروح الحرة، ولا خير فى بلدٍ يفقد الناسُ فيه روحهم الحرة. ويتصل بالحذر من الإهانة ضرورة الحذر من (المهانة) المتمثلة فى اللهاث وراء «المساعدات الخارجية» لأن الفلاح المصرى البسيط قال قبل قرون حكمة بسيطة اللفظ عميقة المعنى (اللى رزقه من فاسه، يبقى رأيه من راسه).. فسواء نصَّ الدستور الجديد المرتقب، أو لم ينصّ، فإن علينا كجماعة مصرية أن نتجنَّب مهانة قبول «المساعدات» فى الوقت الذى نرحِّب فيه بكل أشكال «الاستثمارات» الرشيدة. ■ ■ ■ وبعدُ .. فلا بُدَّ من الإشارة إلى أن هناك «أسئلة جوهرية» أخرى، تتعلق بمستقبل مصر ومصيرها، ومداواة جرحها المفتوح. منها أسئلةٌ تتعلق بالتعليم والعلم؛ وأسئلةٌ تتعلق بالإدارة والمديرين، وأسئلةٌ تتعلق بسيطرة اللواءات السابقين على أنحاء البلاد (محافظين، رؤساء شركات، مديرى قطاعات.. إلخ). غير أن هذه الأسئلة الجوهرية، على أهميتها، لن يسمح المقام هنا بسردها جميعاً، ولا تسمح الحالة العامة فى مصر بإيرادها دفعةً واحدة، فتبقى دوماً مكدَّسة.. ولذلك، فسوف أكتفى بالقدر الذى ذكرته، مشيراً فى ختام هذه المقالة إلى أننى أتمنى أن تهدأ أمور البلاد فى أقرب فرصة، حتى نستدرك ما فات ونقوم بما يجب علينا من عمل كثير فى الفترة المقبلة.. وحتى أعود، ابتداءً من الأسبوع المقبل، إلى ما كنتُ أعرض له فى سُباعية (الأندلس) لأن هذا هو الدور الأهم لمن هو مثلى، أعنى الدور «المحورى» الذى يُمعن النظر فى التاريخ، لتصحيح رؤية الواقع والمستقبل.