استقر رأى الأمن فى مصر على أن التفجير الذى وقع أمام كنيسة القديسين فأدمى قلوب المصريين جميعاً- تم بمعرفة انتحارى قام بتفجير نفسه وسط عدد من الأبرياء الذين لا ذنب لهم ولا جريرة سوى الذهاب إلى دور عبادتهم من أجل عبادة خالقهم. وقد اختلف الرأى فى تحديد هوية الآثم الذى قام بهذا العمل اللاإنسانى ما بين تأكيد على أنه مصرى منخرط فى تنظيم القاعدة أو مؤمن بفكره، وبين إشارة إلى أنه أجنبى، وذلك بعد العثور على رأس وسط أشلاء الضحايا لشخص يحمل ملامح آسيوية (أفغانية أو باكستانية)، وأياً كانت هوية من قام بهذا العمل فالنتيجة واحدة. وعلينا أن نفهم ابتداء أن الانتحار اختيار وليس إجباراً، بمعنى أن أى قوة فى العالم لا تستطيع أن تجبر أو تقنع فرداً بالانتحار من أجل إزهاق روحه ليقتل مجموعة من الأبرياء العزل، بل لابد أن يقرر الفرد ذلك بنفسه، وبالتالى فمهما قيل عن تبعية الجانى لتنظيم محلى أو أجنبى فإن ذلك لا ينفى أنه اختار فعله وحزم أمره حين أقدم على هذه الجريمة. فالأصل فى قرار الانتحار هو اختيار الفرد الذى تتلاقى إرادته مع إرادة تنظيم معين يستهدف تخريب الحياة، وقد لا يكون للقرار أى علاقة بتنظيم ولا يحزنون. وقد شهدت السنوات الماضية بعض الجرائم الإرهابية الانتحارية لأفراد لا يعبرون عن تنظيم إرهابى محدد، بل عن مجموعة من الخلايا الفردية التى يعد أعضاؤها على أصابع اليد الواحدة. وأتصور أن الفرق ليس كبيراً بين ذلك الفرد الذى ينتحر فى وجه غيره تحت مظلة إرهابية، وذلك الآخر الذى ينحر أفراد أسرته ثم يقتل نفسه بعد ذلك بسبب يأسه من حياته المتردية. وقد يرد البعض على هذه الفكرة قائلين إن من يقدمون على الانتحار من أفراد بعض التنظيمات الإسلامية يؤمنون بأفكار جهادية معينة تحثهم على استرخاص النفس من أجل تحقيق غايات معينة تخدم أهداف التنظيم، وأن هؤلاء الأفراد يخضعون لعمليات منظمة من غسيل المخ بهدف تزيين الانتحار فى أعينهم بالتشديد على ما ينتظرهم فى جنان الخلد من حور عين ومن سعادة دائمة ونعيم مقيم. وهو كلام تردده العقليات التى دأبت على الاستسهال فى التفسير وعدم الالتفات مثلما يفعل الانتحاريون إلى ما نص عليه القرآن الكريم من مبادئ وتعاليم. فالله تعالى لم يجعل الجنة حكراً على المجاهدين، وأنا أقصد هنا المجاهدين الحقيقيين الذين يبذلون أنفسهم لغاية نبيلة تتمثل فى حماية الإنسان وليس الانتحار فى الآخرين بغرض إراقة دماء الأبرياء. فسبيل الجهاد بالنفس كما يحدده القرآن الكريم- هو طريق للكفاح والنضال من أجل حماية المستضعفين. الجنة إذن ليست حكراً على المجاهدين بالنفس بل هى شرك بين المؤمنين بالله والصالحين من بنى البشر، بمن فيهم أهل الكتاب الذين يعملون من أجل صالح الحياة وهذا ما يؤكده القرآن الكريم »إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، وبالتالى فرحمة الله تشمل كل خلقه ومخلوقاته، وجنة خلده فيها متسع لكل من آمن وعمل واجتهد فيما يصلح به أمر الحياة. فالجنة ليست حكراً على أحد، ذلك ما يفهمه كثير من المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون فى أرض الله الواسعة إلا هنا!. فلا تكاد تلاحظ هذه الرؤية الاحتكارية لرب العالمين إلا لدى المصريين الذين يجتهد مسلموهم ومسيحيوهم فى التأكيد على أن السماء لم تتكلم إلا بهدف مخاطبتهم دون غيرهم وأن غيرهم لم يصغ إلى كلامها كما أصغوا إليه. وللأسف الشديد فإن الطرفين ينضحان من نفس البئر المقيتة «بئر الاحتكار»، ويبدو أن نظرة الاحتكار التى تسيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى مصر انسحبت على المسألة الدينية أيضاً! فالضائع فى الحياة يسترخص الحياة ويسهل عليه أن يتحول إلى سكين تستخدم فى نحر غيره من المساكين الذين يشربون مثله من كأس الإحباط فى الدنيا التى تقوم على احتكار البعض للشهوات الإنسانية «من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث» فى حين يحرم الضائعون من كل هذا. ويعتقد المؤمنون المتألمون من حرمان الدنيا- من أتباع الأديان المختلفة- أن من يحتكرون نعيم الدنيا هم وقود النار وحطب جهنم، فى حين أن الجنة سوف تكون حكراً على أغلبهم فى الآخرة. وتتعقد المشكلة عندما يتوجه مساكين الدنيا الذين لا يملكون أى قدرة على مواجهة سلاطينها الممتلكين عناصر القوة إلى صب غضبهم على مساكين محبطين أمثالهم، لا لشىء إلا لأن الضعيف على الضعيف أقدر. إن صناعة الموت هى الصناعة الأكثر سيطرة على المجتمعات التى ترتكز على فكرة احتكار السلطة أو الثروة أو الفكرة. ونحن نعيش تحت سطوة حزب يحتكر السلطة وحده، ورجال أعمال يستأثرون بثروات هذا البلد ويقطعون اليد التى تحاول أن تنازعهم فيما يملكون، ومؤسسات دينية تحتكر الحديث باسم الله واسم من يتبعها من المؤمنين، وجماعات إسلامية تحتكر تفسير كلام الله. الكل يغتنى ويلعب ب«الفلوس لعب»، أما الفقر والحرمان فقد تركا كاملين لمساكين هذا الشعب، بمسلميه وأقباطه، فاندفعوا- تحت سيف القهر إلى التنافس على احتكار الآخرة وجنة الله. وفى مواجهة محتكرى الدنيا الذين يمارسون عليهم كل أنواع الإذلال انساق هؤلاء إلى سحق رؤوس بعضهم البعض مرة تحت مسمى الجهاد، ومرة تحت راية الاستشهاد! هكذا يمتطى المصريون سفينة الموت التى تتخبط بهم يميناً ويساراً بعد أن تعب ربانها وترك مقعد القيادة وانهمك باقى الطاقم فى التنازع على من يجلس مكانه، وانشغل ركابها فى نهش بعضهم البعض دون أن يدرى الجميع أن ثمة لحظات وترتطم السفينة بصخرة لتجعلها «ستميت حتة»!.