«كانت شوارع القاهرة تغسل بالماء والصابون كل صباح«.. عبارة تكررت على ألسنة نخبة من كبار مفكرى الكويت ورجال اقتصادها وسياستها، ممن جاءوا قاصدين القاهرة فى أيامها الزاهرة سعيا وراء العلم، يحفر كل منهم فى ذاكرته ويلهث وراء الكلمات التى تتدفق من بين شف تيه، ويقول لى وفى عينيه امتنان وغبطة: «القاهرة كانت أجمل مدن الدنيا، ومصر كانت قبلتنا، قصدناها راجين فلم تردنا خائبين أبدا». عشرة أيام قضيتها فى الكويت بين هؤلاء ولا حديث إلا عن مصر، لكنها مصر الجميلة التى ضاعت من بين أيدينا، ومستقرة فى ذكرياتهم لم يطمرها النسيان. يقول لى المؤرخ الكبير يعقوب الغنيم: «كل شىء كان يجرى فى مصر يتردد صداه فى الكويت، خرجنا فى مظاهرات عارمة أيام العدوان الثلاثى وقلنا لعبدالناصر: لا تتنح بعد هزيمة يونيو مثلما فعلتم أنتم». ويكاد الغنيم يبكيك وهو يحكى عن أستاذه العلامة الكبير محمود شاكر، الذى كان ينظم دروسا خاصة ببيته فى الأدب والفكر للطلاب العرب، ويقول: «سجنوه ولاحقوه وألزموه بعد أن أفرجوا عنه بأن يتابع القسم كل يوم فأرهقه هذا، وأتيح لى أن أزور معه مسؤلاً كبيراً فى المخابرات أيامها، فقلت له: إذا كنتم لا تعرفون قيمة هذا الرجل فامنحوه إذنا بالسفر وسنحمله على رؤوسنا فى الكويت». ويسعدك شاب مثل أحمد المطيرى، يعمل مصوراً تليفزيونياً، حين يقول: »شارك أبى فى حربى 67 و73 ضمن الكتيبة الكويتية« ثم يبتسم ويكمل: »تحدث لى كثيراً عن انبهاره بشجاعة المصريين فى حرب أكتوبر« وبعد ليلتين يُعرفنا فى «البر» حيث يضرب الكويتيون خياما فى الصحراء ليستعيدوا أيام زمان على صديق له قائلا: استشهد أبوه فى سيناء. وتضحك مع رجل الأعمال جواد بوخمسين وهو يحكى عن أمثولة سائدة فى بلاده قائلا: حين تسأل شخصا: هل أنت كويتى؟ ويجيب: أنا كويتى، فعليك أن تسأله: هل لديك بيت فى مصر؟ فإن هز رأسه نفيا، قل له على الفور: أنت لست كويتيا«. أما إبراهيم الشطى أحد كبار مثقفى الكويت ومدير الديوان الأميرى فيسرد ذكرياته فى جامعة القاهرة أيام طه حسين وأحمد أمين ويقول: «كنت أراهما لكننى تخرجت فى قسم الجغرافيا، لأن أبى كان بحاراً ويحكى لى عن البلاد التى يبحر إليها فأحببت هذا التخصص، وتعلمته على يد علماء أفذاذ فى مصر»، وحين تسأله عن تكوينه الثقافى يقول على الفور: «أدين بالعرفان لسور الأزبكية ومكتبات القاهرة التى كانت واجهاتها تجذبنى فأدخر من مصروفى القليل لأشترى نفائس المعرفة». على الغانم، رئيس غرفة التجارة والصناعة الكويتية، يحكى عن كلية فيكتوريا بالإسكندرية التى جاء إليها عام 1949 وزامل فيها الدكتور رشيد محمد رشيد، ويحكى عن روح التسامح التى كانت سائدة فى عروس البحر الأبيض المتوسط، ويقول: «أبى كان مهتماً بأن يتلقى أبناؤه أفضل تعليم فأرسلنى إلى كلية فيكتوريا»، وحين تسأله عن سبل تعزيز الاستثمارات الكويتية فى القاهرة يجيب: «بوسعكم أن تجذبوا عشرين مليون سائح بآثاركم المتنوعة العريقة، وبإمكانكم أن تحولوا ميناء بورسعيد إلى جسر تجارى كبير بين الشرق والغرب». ويسرد عبد العزيز البابطين الشاعر ورجل الأعمال حكايته مع الإسكندرية فيقول: «ذهبت إليها لأقضى شهر العسل عام 1962 ودرت على الفنادق فلم أجد غرفة فى أى منها، وانتصف الليل فطرقت على باب بيت فخرجت إلىَّ سيدة عجوز فقلت لها: أنا كويتى ومعى زوجتى ولا أجد مكانا للمبيت فى فنادق الإسكندرية، فأومأت برأسها ودخلت فخرج لى زوجها وقال: دقيقة واحدة يا ابنى، ثم دخل ربما ليجهز لنا غرفة النوم الوحيدة، ثم سمح لى بالدخول فنامت زوجتى وجلست ساهرا طوال الليل، وفى الصباح جاءتنا طفلة صغيرة تحمل صينية الإفطار باسمة فاستبشرت بها ودسست فى يدها عشرة جنيهات، وكانت أيامها مبلغاً كبيراً، فخرجت فرحة، وبعد دقيقة واحدة جاء الرجل عابسا وبين طرفى أصابعه النقود، وقال لى: يا ابنى بيتى ليس فندقا حتى تعطينا أجر مبيتك، فقلت له: «هذه ليست أجرة إنما تحية للصغيرة الجميلة، فقال: هل تريد إغضابى؟ فأجبته: لا، فقال: إذن خذ نقودك، والبيت بيتك». وعلى ذكر البيوت يقول الغنيم: «كان الأهالى يرفضون إقامة العزاب منا، فكنا نتحايل على هذا الأمر بصعوبة شديدة». ويبين محمد السنوسى، وزير الإعلام الأسبق، صاحب أشهر برامج فى الخليج كلها، المساهم فى إنتاج فيلمى «الرسالة» و»عمر المختار»، كيف تشكلت قريحته الفنية حين درس المسرح بمصر، ويقول: «استفدنا من الخبرات المصرية كثيراً حين أطلقنا تليفزيون الكويت». وحين تأتى على ذكر مجلة العربى مع الدكتور محمد الرميحى الذى رأس تحريرها سنوات طويلة، يحكى لك عن المصريين الكبيرين الدكتور أحمد زكى والأستاذ أحمد بهاء الدين، فالأول أطلق هذه المجلة العريقة، والثانى تسلم منه الراية ولم يتركها حتى أصبحت درة ثقافية. حكى رموز الكويت عن مصر التى رأوها فى زمانهم الأول، ولم يدفع أى منهم الحديث باتجاه مصر التى أراها الآن.. هم يعرفون ما جرى، وأنا أدرك أنهم يستحون من الحديث عما أراه، لكن أحدهم وهو الكاتب على المتروك قال لى وهو يدوس على الحروف ليؤكد كلامه: «مصر مهما تدهورت أحوالها فبوسعها أن تنهض أسرع مما نعتقد، هكذا هى طيلة التاريخ». ركبت الطائرة، ورحت أستعيد أنا والمخرج السينمائى الكبير عبداللطيف زكى، هذه الحكايات، وحين رأيت الزحام فى مطار القاهرة قلت لنفسى فى ثقة وأنا أضحك: ولو ... فبوسعنا أن نبدأ من جديد بعد رحيل الفاسد المستبد.