حسمت الانتخابات التشريعية الأخيرة مستقبل مصر السياسى، وبات فى حكم المؤكد أن البرلمان الحالى «ولد ليبقى» حتى انتخابات الرئاسة، ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة تغير من المعادلات التى تحكم البلاد. والمؤكد أن «الانتصار» الكاسح الذى حققه الحزب الوطنى فى الانتخابات الأخيرة لا يعكس قوة خارقة أو استثنائية للحزب، ولا عبقرية مفاجئة هبطت عليه وجعلته ينتقل من الرسوب فى انتخابات 2005، حين حصل على 32% من أصوات الناخبين، إلى التفوق الباهر والفلاح فى انتخابات 2010 وحصوله على 90% فى ظل غياب المراقبين الشرفاء، أى القضاء المصرى. والمؤكد أن الانتصار الساحق الذى يتغنى به بعض قادة الحزب الوطنى هو انتصار زائف، وأنه لا يمكن لأى حزب طبيعى أن يحصل على 90% من مقاعد البرلمان ويدعى أنه يمتلك عضوية مليونية إلا لو كان يعيش فى بلد ليس فقط غير ديمقراطى إنما أيضا معدوم الكفاءة والخيال. وإذا كان انتصار الحزب الوطنى فى الانتخابات الأخيرة جاء بعد انتخابات شابها تزوير فادح وحوادث عنف وبلطجة واسعة، فهل هذا يعنى أن الحزب الوطنى غير موجود وهو ظاهرة مصنعة لا ظلال لها فى الواقع، وأن مقرة الرئيسى الكائن على ضفاف النيل تسكنه الأشباح والعفاريت؟ بالتأكيد لا، فالحزب رغم ترهل أدائه وسوء إدارة كثير من قياداته فإنه موجود، لأنه جزء من ثقافة البلد النهرية وتاريخها الفرعونى الذى يعظم حزب السلطة والفرعون الجالس على قمتها، مهما كان. والسؤال المطروح: هل حزب الحكومة الوطنى الديمقراطى يضم إصلاحيين؟ إجابة كثيرين لا وإجابتنا نعم، ولكن من هم وبأى معنى؟! إن الإصلاحيين الذين نقصدهم فى الحزب الوطنى ليسوا بالضرورة مدعيى الإصلاحية فى الحزب، حتى لو كان شكلهم إصلاحياً (كمبيوتر وبساطة أمام الكاميرا، ولغات أجنبية) ولكن المضمون ظل عكس الصورة الخارجية، ويكفى الطريقة التى أديرت بها الانتخابات الأخيرة حتى نتأكد من مضمون الرسالة الإصلاحية التى يقدمها هؤلاء للشعب المصرى. إن معضلة الحزب الوطنى، الذى تأسس عام 1978 بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات، أنه اعتمد منذ الولادة على مؤسسات الدولة، فانتقلت إليه الثقافة السياسية السائدة داخل أى مصلحة حكومية، وأصبحت الغالبية العظمى من أعضائه تتحرك بناء على أوامر إدارية، وصارت علاقاتهم بقادتهم الحزبيين مثل علاقة الموظفين برؤسائهم فى المصالح الحكومية أو الشركات الخاصة، واكتظ الحزب بالمتكالبين على إيجاد مواقع لهم فى قوائمه الانتخابية، وسلمه القيادى، ليس بسبب عبقرية قيادته، ولا بسبب خطه السياسى المقنع، إنما ببساطة لكونه «حزب الدولة» القادر على تقديم خدمات لأعضائه، فضم تشكيلة متنوعة من كل ألوان الطيف السياسى وغير السياسى، وأعداداً هائلة من الأعضاء الراغبين فى الاستفادة من مؤسسات الدولة لحل بعض المشكلات الموجودة داخل دوائرهم الانتخابية أو مناطق نفوذهم، وبعضهم كانوا من المخلصين، الذين استسهلوا فكرة الحل أو الإصلاح من خلال حزب الحكومة القادر على ضمان مقعدهم فى مجلس الشعب أو مساعدة أبنائهم وأهل دائرتهم. وقد اكتشف كثير من قادة الحزب ومن عضويته الوسيطة أن حزب دولتهم الذى عرفوه بسلبياته وإيجابياته قد تحول إلى شركة خاصة تهدم كثيراً من تقاليد هذه الدولة التى عرفوها منذ عقود، ودون أن ينقلهم خطوة واحدة للأمام فى اتجاه بناء نظام رأسمالى حديث وديمقراطى. وبدأوا فى التململ من قول آمين لأمين التنظيم، ورأينا بعضهم فى مظاهرات عمال المحلة ومشاركين فى كثير من الاحتجاجات الاجتماعية، ومعهم ضم الحزب عقولاً لامعة من أساتذة الجماعات ومن الكوادر المصرية الذين وجدوا أن البقاء فى المعارضة لن يغير أوضاع البلد ولا أوضاعهم فاختاروا الانضمام للحزب الوطنى على أمل تغيير الاثنين. والحقيقة أن الطريقة التى أدار بها القادة الجدد للحزب الوطنى الانتخابات الأخيرة أدت إلى استبعاد كثير من هؤلاء، وخلفت مرارات وانقسامات غير مسبوقة فى تاريخ الحزب، عمقها نمطان غير مسبوقين فى إدارة أى حزب سياسى فى العالم، الأول: مطالبة مرشحيه بالتوقيع على توكيلات رسمية فى الشهر العقارى باسم أمين تنظيم الحزب، يعلنون فيها أنهم لن يترشحوا ضد الحزب فى حال إذا لم يخترهم للترشح على قوائمه، فى اعتراف صريح بأن الحزب لا يحصل على ولاء أعضائه بالسياسة والاقتناع إنما بالقهر والتوكيلات الرسمية، وهو أمر رفضه البعض احتراما لكرامتهم ورفضوا التقدم من الأصل للمجمع الانتخابى، والثانى تمثل فى السماح لحوالى 800 مرشح من أعضاء الحزب بمواجهة بعضهم البعض فيما عرف بالدوائر المفتوحة، فى مشهد يدمر أبسط معانى الانتماء الحزبى البديهية والمعروفة فى كل مكان فى العالم، خاصة أن المرارات التى خلفها بين أعضاء الحزب تجعل استمرارهم معا أمراً شبه مستحيل، وتكفى قراءة ما نشر الأسبوع الماضى على صفحات «المصرى اليوم» من ردات فعل كثير من مرشحى الحزب الوطنى «الراسبين» بسبب مرشحى وطنى آخرين، لنكتشف أن بعض ما قيل هو أكثر قسوة مما يقوله رموز المعارضة بل إن كثيراً مما يقال فى الجلسات الخاصة لكثير من أعضاء الحزب الوطنى المحبطين أكثر «ثورية» من خطاب كثير من القوى الاحتجاجية الجديدة. والحقيقة أن ما سبق وقلناه عشية مؤتمر الحزب الوطنى فى 2002 عن إن إصلاح النظام السياسى المصرى سيبدأ حين ينصلح حال الحزب الوطنى ويصبح حزباً طبيعياً، وهو لا يمكن أن يحدث إلا إذا انقسم لحزبين، أحدهما يعارض والثانى يحكم. إن ما جرى فى الانتخابات الأخيرة خلق واقعا جديدا داخل الحزب الوطنى سنرى تداعياته فى المستقبل المنظور وسنصبح أمام حزب غير قادر على ضبط أعضائه وسنجد مزيداً من العشوائية والصراع العلنى بين أعضائه وكثير من نوابه. صحيح أنه لا يوجد لدى قادة الحزب الوطنى الجدد خيال ولا حتى اهتمام أو اعتراف بأن هناك أزمة عميقة يعانى منها الحزب الحاكم والنظام السياسى المصرى، بسبب هذا الكيان «الديناصورى» مترامى الأطراف وغير الفاعل سياسيا المسمى الحزب الوطنى، إلا أن «المستقبل الآمن» أو الإصلاح الآمن لن يكون إلا بإعطاء شرعية سياسية للجميع، سواء هؤلاء الداعمين للتوريث من كبار رجال أعمال الحزب، أو الآخرين الذين كثير منهم لم يعارضوه، إنما رأوا أن الطريقة التى يسير بها تخرجهم كل يوم من الحياة السياسية وهؤلاء من حقهم أن يؤسسوا حزباً آخر. إن انقسام الحزب الوطنى سيعنى ميلاده الثانى بصورة تتجاوز تشوهات الميلاد الأول لحزب السلطة، وتجعل لأول مرة هناك أساساً أخلاقياً وسياسياً يختار على أساسه الأعضاء الانتماء لأى من الحزبين، بعد أن دخلوا تلقائيا فى الميلاد الأول للحزب الوطنى لأنه حزب الحكومة والدولة، أما إذا انقسم فإنهم «سيختارون» كيانا ما، وفى هذا الاختيار نكون انتقلنا خطوة كبيرة نحو الإصلاح. تعليق: جاء فى مقال الأسبوع الماضى أن النائب المحترم حمدى الطحان لم يرشحه المجمع الانتخابى للحزب الوطنى، والصحيح ما جاء كخبر فى عدد «المصرى اليوم» نفسه، من أن الرجل لم يتقدم بالترشيح من الأصل إلى المجمع. وما نقوله إن النائب السابق تأكد أن الحزب لن يختاره فلم يقدم أوراقه. هذا التوضيح جاء بسبب اتصال صديقنا المدقق محمد رضوان، مدير تحرير «المصرى اليوم»، لكى يتأكد من دقة ما نشرته «المصرى اليوم» الذى بدا متعارضا مع ما كتبت، وأطمئنه بأن خبر الصحيفة كان هو الأكثر دقة، أما مصادرى المتواضعة فهى تقدم التفسير لعدم تقديم الرجل أوراق ترشيحه. [email protected]