فى عبارة مشهورة يقول الفيلسوف البريطانى أشعيا برلين «هناك فارق بين الثعلب والقنفذ، فلدى الثعلب أفكار كثيرة ومتنوعة، أما القنفذ فليس لديه سوى فكرة كبيرة واحدة يعيش من أجلها». و«برلين» ليس متخصصاً فى علم الحيوان، ولذلك فإن معلوماته عن الثعالب أو القنافذ ليست حاسمة، فهو مفكر سياسى يهتم بواقع الحياة السياسية بأكثر من اهتمامه أو معرفته بمملكة الحيوان، وما أشار إليه قد يكون صحيحاً أو غير صحيح بالنسبة للحيوانات، ولكنه قصد به الإشارة إلى أوضاع البشر خصوصاً فى ميدان الصراع السياسى. فكثيراً ما نرى أفراداً أو تيارات سياسية تسيطر عليهم فكرة واحدة كبيرة يرون فيها الحقيقة المطلقة، وتصبح هى هدف كل حياتهم، وما عداها فهو هراء أو لا قيمة له، فالحياة عندهم هى أبيض أو أسود. فإذا تحقق الهدف، فهى الجنة بعينها، وإذا لم يتحقق فإنها جهنم وبئس المصير، وبالتبعية فمن معنا فهو صديق وعلى طريق الصواب الكامل، ومن ليس معنا فهو عدو وجاهل، وهكذا فليس للحقيقة عندهم سوى وجه واحد، وهو ما يرونه، ويترتب على ذلك، منطقياً، أن يكون هناك هدف واحد للحياة هو الوصول إلى هذه الحقيقة المطلقة، أما ماعداها فلا قيمة له ولا معنى، وهذا الفريق من الناس هم نواة مفهوم التعصب والتشدد، ورغم أن هذا النوع من البشر لا يمثل، فى العادة، سوى قلة محدودة، فإنها مع ذلك قلة مؤثرة، لأنها متفانية فى تحقيق هدفها الوحيد والأسمى، ولا ترى غيره ولذلك تتميز هذه القلة بالتصميم والإرادة الصلبة لتحقيق هدفها الأسمى، والتضحية بكل شىء فى هذا السبيل. وعلى العكس من ذلك، فإن أفراداً آخرين، هم الغالبية فى معظم الأحوال، يرون أن للحقيقة أوجهاً متعددة، وأن ما قد يكون صحيحاً أو مقبولاً فى ظرف معين قد لا يكون كذلك فى ظرف آخر، فللحقيقة جوانب متعددة قد يخفى بعضها علينا بعض الوقت أو معظمه. فالحقيقة لديهم، هى فى جوهرها نسبية، فنحن نكتشف كل يوم أبعاداً جديدة كانت خافية علينا، وقد كتب على الإنسان البحث والاستقصاء للوصول إلى الحقيقة، وهو يكتشف كل يوم جديداً كان غائباً عنه، ولكنه لن يصل مطلقاً إلى هذه الحقيقة الكاملة، فالحقيقة المطلقة هى عند الله، ونحن نقترب منها بشكل متواصل دون أن تكون هناك نهاية لذلك، كذلك فإن ما نراه صحيحاً قد يراه غيرنا خطأ، ثم قد يتبين أن الحقيقة تجاوز الأمرين معاً، وبالتالى فهناك دائماً احتمال الصحة لآراء الآخرين. فلا أحد يملك وحده احتكار الحقيقة، وكما كان يقول علماء المسلمين «هذا رأيى وهو صواب يحتمل الخطأ، كما أن الرأى الآخر هو خطأ، وإن كان يحتمل الصواب»، وهكذا فالألوان لا تنحصر فى الأبيض والأسود، بل إنها غالباً ما تتراوح بين درجات مختلفة من الرمادى، وإذا لم تكن هناك حقيقة واحدة مطلقة بل هناك حقائق نسبية متعددة، فلا يمكن أن يكون للحياة هدف وحيد، بل الصحيح أننا نسعى لأهداف كثيرة ومتنوعة، وكلها مطلوبة ومفيدة، وهى أيضاً أهداف متكاملة ومتنافسة أيضاً، ولا يمكن اختصارها فى هدف وحيد مطلق، فالإنسان يحب نفسه، ولكنه يحب عائلته وعشيرته، وهو يرتبط بأبناء جلدته، كما يتعاطف مع الإنسانية جمعاء، فضلاً عن أنه يشارك أبناء المهنة فى الكثير من الاهتمامات المشتركة، وهو يسعى إلى كل هذه الأهداف مجتمعة، ويحاول التوفيق فيما بينها، فهو قد يسعى إلى الجاه، ولكنه يريد أيضاً أن يكون محل احترام، وهو يحب أن يرتقى بمستواه العلمى، ولكنه يتطلب وفرة من المال للعيش الكريم. وهكذا فقد يتنازل عن قدر من المال إعانة لعائلته أو للفقراء، وقد ينفق الغالى والرخيص فى سبيل التعلم، ولكنه لا يضحى بعائلته أو ذويه من أجل ذلك، وقد يأمل أن يرتقى فى سلم الوظائف، ولكنه لا يقبل أن يتنازل عن كرامته، فالحياة متعددة الأهداف تتطلب الموازنة فيما بينها، وبما يحقق التوازن المعقول بينها، الحياة ليست ذات بُعد وحيد، بل هى متعددة الأبعاد، فهكذا يكون الإنسان السوى، وعلى هذا النحو نفهم عبارة «برلين» عن نمطى القنفذ والثعلب، فهو تعبير عن المفارقة بين فئة المتعصبين والمتشددين من جانب، وفئة المعتدلين من جانب آخر، فالاختلاف بينهما ليس اختلافاً فى نوع الأهداف لكل منهما، وإنما هو اختلاف بين الوحدة والتعدد فى الأهداف. فالأولون من المتعصبين لا يكادون يرون سوى هدف وحيد للحياة ولا يرون أى شىء آخر، فهم كمن أصابه عمى ألوان يبحث عن لون وحيد، فإن لم يجده فإنه لا يرى شيئاً، على العكس فإن المعتدلين قد يشاركون المتعصبين فى بعض آرائهم، ولكنهم يرون عناصر أخرى من الصورة فإذا لم يوجد اللون الأبيض، فليس معنى ذلك أن اللون الوحيد الموجود هو الأسود، بل قد يكون رمادياً أقرب إلى الأبيض منه إلى الأسود، وهكذا فإن نمطى القنفذ والثعلب هما تعبير عن اختلاف فئات البشر بين أصحاب الحقيقة الوحيدة المطلقة من ناحية، وأصحاب الحقائق النسبية المتعددة من ناحية أخرى، الأولون يبحثون عن هدف وحيد، والآخرون يوازنون بين أهداف متعددة لتحقيق تعادل أو توازن مقبول. ولكن ما يدعو إلى الغرابة هو أنه إذا كانت الغالبية من البشر أقرب إلى النوع الثانى للاعتدال ونسبية الأحكام، فإن أنصار التعصب وهم قلة، كثيراً ما ينجحون فى فرض آرائهم، وسيطرتهم على الغالبية، فكيف تنجح هذه الأقلية، فى كثير من الأحوال، فى فرض سيطرتها على الغالبية؟ كيف ينجح التعصب والتشدد فى العديد من الأحوال، رغم أن الأغلبية من البشر فى جميع أنحاء العالم من المعتدلين المسالمين؟ كيف يمكن للأقلية الأكثر انغلاقاً أن تفرض نفسها على الأغلبية الأكثر تفتحاً واعتدالاً؟ لماذا يتغلب أصحاب الفكرة الوحيدة على أصحاب الفكر المتعدد؟ لماذا يغلب التعصب على الاعتدال فى كثير من الأحوال؟ هذه أسئلة مهمة. وهذا ما سنجيب عنه فى المقال المقبل. www.hazembeblawi.com