ملامح تطوير الثانوية العامة    متحدث الوزراء: نعد قائمة بالفرص الاستثمارية لعرضها خلال المؤتمر المصري الأوروبي    وزير التجارة يبحث مع نظيره التركي سبل تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين    منطقة سوهاج الأزهرية تنظم ندوة للتوعية بترشيد استهلاك المياه    الدعم العينى.. أم الدعم النقدى؟    الحوثيون يعلنون اعتقال خلية تجسس أمريكية إسرائيلية    ميدفيديف يطالب شولتس وماكرون بالاستقالة بعد نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي    جمال الكشكي: الرئيس السيسي حذر منذ اللحظة الأولى من اتساع الحرب في غزة    روغوف: القوات الروسية تعزز مواقعها في بلدة أوروجاينويه بدونِتسك الشعبية    بيلد: انتقال بالينيا لبايرن ميونيخ يهدد استمرار كيميتش    "سينما اليورو".. عندما نفَذ بانينكا أعجوبته في شباك الألمان في نسخة 76    تواصل عمليات تفويج حجاج القرعة من المدينة المنورة إلى مكة (صور)    أبل تعلن رسميًا عن نظام التشغيل iOS 18 مع ميزات جديدة.. احصل عليه اليوم    بعد أزمة صفعه ل شاب، أسعار تذاكر حفل عمرو دياب في دبي تثير الجدل    لميس الحديدي تكشف عن سبب إخفائها خبر إصابتها بالسرطان    محمد ممدوح يروج لدوره في فيلم ولاد رزق 3    إغلاق مكتب وزير الصحة في الكنيست بعد فتحه ظرفا بريديا به "مادة مشبوهة"    الحج عرفة.. الإفتاء توضح مقدار الوقوف ومتى يبدأ وأقل وقت لإدراكه    تعرف على الأضحية وأحكامها الشرعية في الإسلام    نصائح للمواطنين في عيد الأضحى.. ليلة الواقفة ناكل رقاق وأول يوم العيد اللحمة    طريقة عمل الكيكة العادية الهشة، ألذ تحلية لأسرتك    ياسمين صبري تنشر جلسة تصوير جديدة من أثينا والجمهور يعلق (صور)    تطورات جديدة حول اختفاء طائرة نائب رئيس مالاوي ومسؤولين آخرين    عزة مصطفى عن واقعة مدرس الجيولوجيا: شكله شاطر    أمين الفتوى: الخروف أو سبع العجل يجزئ عن البيت كله في الأضحية    "وطني الوحيد".. جريدة المصري اليوم تكرم الكاتب مجدي الجلاد رئيس تحريرها الأسبق    تكريم أحمد رزق بمهرجان همسة للآداب والفنون    أول رد من جامعة الإسكندرية على فيديو رفض إعطاء مريضة سرطان جرعة كيماوي    «المصريين الأحرار» يُشارك احتفالات الكنيسة بعيد الأنبا أبرآم بحضور البابا تواضروس    ماركو أرناوتوفيتش.. يورو 2024 فرصة لدخول التاريخ مع منتخب النمسا    مصر تتربع على عرش جدول ميداليات البطولة الأفريقية للسلاح للكبار    رشا كمال عن حكم صلاة المرأة العيد بالمساجد والساحات: يجوز والأولى بالمنزل    «الصحة» تنظم برنامج تدريبي للإعلاميين حول تغطية الشؤون الصحية والعلمية    10 صور ترصد استطلاع محافظ الجيزة أراء المواطنين بالتخطيط المروري لمحور المريوطية فيصل    موعد محاكمة ميكانيكي متهم بقتل ابن لاعب سابق شهير بالزمالك    قصور الثقافة تواصل فعاليات ورشة إعادة تدوير المخلفات بالإسماعيلية    غدًا.. ولي عهد الكويت يتوجه إلى السعودية في زيارة رسمية    المرصد المصري للصحافة والإعلام يُطلق حملة تدوين في "يوم الصحفي المصري"    سفر آخر أفواج حُجاج النقابة العامة للمهندسين    قافلة جامعة قناة السويس الطبية تفحص 115 مريضًا ب "أبو زنيمة"    ليونيل ميسي يشارك في فوز الأرجنتين على الإكوادور    "بايونيرز للتنمية" تحقق أرباح 1.17 مليار جنيه خلال الربع الأول من العام    وزارة الأوقاف: أحكام وصيغ التكبير في عيد الأضحى    مستشفيات جامعة أسوان يعلن خطة الاستعداد لاستقبال عيد الأضحى    اسكواش - مصطفى عسل يصعد للمركز الثاني عالميا.. ونور الطيب تتقدم ثلاثة مراكز    توفير فرص عمل ووحدات سكنية ل12 أسرة من الأولى بالرعاية في الشرقية    تشكيل الحكومة الجديد.. 4 نواب في الوزارة الجديدة    «مودة» ينظم معسكر إعداد الكوادر من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات    مفاجأة مثيرة في تحقيقات سفاح التجمع: مصدر ثقة وينظم حفلات مدرسية    الأوقاف: افتتاح 27 مسجدًا الجمعة القادمة| صور    مطلب برلماني بإعداد قانون خاص ينظم آليات استخدام الذكاء الاصطناعي    ضياء رشوان: لولا دور الإعلام في تغطية القضية الفلسطينية لسحقنا    صندوق مكافحة الإدمان يستعرض نتائج أكبر برنامج لحماية طلاب المدارس من المخدرات    بعد لجنة الاستماع فى أزمة المنشطات .. ما هي خطوات رمضان صبحى المقبلة؟    جالانت يتجاهل جانتس بعد استقالته من الحكومة.. ما رأي نتنياهو؟    حالة الطقس المتوقعة غدًا الثلاثاء 11 يونيو 2024| إنفوجراف    النسبة التقديرية للإقبال في انتخابات الاتحاد الأوروبي تقترب من 51%    محمد عبدالجليل يقيّم أداء منتخب مصر ويتوقع تعادله مع غينيا بيساو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى مصر.. لا تحمل همًّا
نشر في المصري اليوم يوم 12 - 04 - 2010

نحن كمصريين ليس لدينا حب المغامرة أو اقتحام المجهول.. نحب الاستقرار وعدم الانتقال من مكان إلى آخر.. السفر عندنا قطعة من العذاب.. ربما كان هناك من سكان القاهرة من لم يشاهد أو يفكر أن يشاهد الأهرامات، أو يكلف نفسه زيارة متحف الآثار، أو القلعة..إلخ. حكامنا يعلمون عنا ذلك.. يعلمون أننا مرتبطون بالمكان والزمان والإنسان.. أننا أمة محافظة، نعشق القديم، ولا نقبل على الجديد بسهولة.. لذلك أثر عنا «أن الذى نعرفه أحسن من الذى لا نعرفه» بغض النظر عن سلبيات هذا الذى نعرفه.
فى حديثه عن خصائص الشخصية المصرية يقول حمدان فى رائعته «شخصية مصر»: «لعل هناك شبه اتفاق على بعض خصائص أساسية تعد أركان أو أقطاب تلك الشخصية. أولها دائما التدين، وثانيها حتما المحافظة، وثالثها باستمرار الاعتدال، ورابعها غالبا الواقعية، وخامسها أحيانا السلبية. وبهذا الشكل تبدو السلسلة كمتوالية تنازلية إلى حد ما، تتدرج نسبيا من الموجب إلى السالب أو من القوة إلى الضعف».. تعالوا معى إلى هذه القصة.
فى مثل هذه الأيام من عام 1985 نزل علينا بأسيوط أستاذ جيولوجيا شهير، اسمه ليك، من جامعة جلاسجو باسكتلندا على خلفية تعاون علمى مشترك بين قسم الجيولوجيا بجامعة أسيوط ونظيره فى تلك الجامعة.. أحضرالأستاذ ليك زوجه معه، فهى فرصة للحرم المصون أن ترى على الطبيعة الأهرام وأباالهول والآثار العظيمة بمدينة الأقصر.. ولأن تخصصنا، الرجل وأنا، كان واحدا فقد ارتأى مجلس قسمنا الموقر أن أرافق الضيف وأن أضع له برنامج الزيارة، من الألف إلى الياء.. تضمن البرنامج من بين عناصره الأساسية القيام برحلات جيولوجية إلى الصحراء الشرقية المصرية.. بالطبع كانت هناك حوارات ثقافية واجتماعية تجرى بيننا أثناء طعام الغداء والعشاء، لا تقل فى أهميتها وحرارتها عن القضايا العلمية..
فى كل مرة كان الأستاذ ليك يطلب شيئا أو يسال عن شىء، كان يسمع منى إجابة واحدة وهى: لا تحمل هما.. كنت أقولها من باب طمأنته، وأن كل شىء مأخوذ فى الحسبان، وأن الأمور سوف تجرى بمشيئة الله وفق ما هو مخطط لها.. ويبدو أن الرجل كان يعرف عن مصر أكثر مما نعرف نحن، إذ كنت ألاحظ ابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيه حينما كان يسمع منى هذه الإجابة.. كان الرجل بطبيعته ظريفا للغاية ولم يكن يمل من إلقاء النكات والتعليقات الطريفة واللاذعة على أى شىء يراه أو يسمع عنه أو يقع أمامه، وكان حينما يلقانى فى صباح كل يوم يبادر بإسماعى آخر نكتة.
كانت زوج السيد ليك تعمل مدرسة وحكت لنا عن مدى التزامها وإقبالها على ممارسة الرياضة وذلك من خلال ركوب دراجتها حتى وهى ذاهبة إلى مدرستها، وكيف أنها ما زالت تحافظ على قيم الأسرة وأنها ضد موجات الإباحية التى تجتاح المجتمعات الأوروبية، لذا لم يكن لديها تلفاز فى بيتها حرصا منها على عدم مشاهدة أبنائها للمساخر التى تبثها القنوات البريطانية آنذاك!
حين قررنا الذهاب إلى قنا، كى ننطلق منها إلى الصحراء الشرقية، أصرت السيدة ليك على مرافقتنا، بدعوى أنها تريد أن ترى مصر، حيث إن الصحراء المصرية تمثل 97% من مساحتها، وإن هى حرمت من ذلك فقد حرمت من رؤية مصر!.. حاولنا إقناعها بأن الرحلة الجيولوجية شاقة ومضنية، وأن ارتياد الصحراء له مخاطره، وخير لها أن تمكث بالاستراحة فى قنا، لكنها أبت.. والواقع أن هذا الإصرار، وهذا التصور من جانبها، شد انتباهى وجعلنى أفكر وأتأمل كيف يفكر هؤلاء القوم..إن السيدة، رغم محاولات التثبيط التى قمنا بها، مصرة على الخروج إلى الصحراء القاحلة..كان لديها نهم وشغف للمعرفة، ورغبة ملحة لاقتحام المجهول، وحرص غريب وعجيب على المغامرة.. مرت الرحلة الأولى على خير ولم نلق بها أى منغصات، وكانت السيدة ليك سعيدة كل السعادة، مما حفزها على الخروج فى اليوم التالى..
فى الرحلة الثانية كنت متعبا وآثرت أن أبقى بالاستراحة، وانطلقت المجموعة، السيد ليك وزوجه وبعض من تلاميذنا النجباء، بالسيارة الجيب بعد صلاة الفجر، من مدينة قنا إلى مدينة قفط، ومنها إلى منطقة الفواخير التى تقع على الطريق الأسفلتى وسط المسافة بين قفط ومدينة القصير، حيث يوجد منجم الذهب القديم المسمى باسمها..
من هناك تركت المجموعة الطريق الأسفلتى ودلفت إلى وادى عطاالله الشهير، الواصل بين طريقى قنا/سفاجا قفط/القصير، ومنه إلى عدة أودية فرعية كثيرة ومتشعبة، وقضوا نهارهم كله فى الصعود والهبوط من الجبال المرتفعة التى تزخر بها هذه المنطقة، حيث كان أحد تلاميذنا حريصا على أن يرى السيد ليك كل شىء.. لكن لكل شىء عاقبته.. لقد أوصيتهم وأكدت عليهم أن يكونوا على الطريق الأسفلتى عند الغروب على أقصى تقدير..لكن حماسة الشباب وثقته بنفسه تجعله عادة قليل الحذر، مستخفا بالتوجيهات، قليل الحكمة..فماذا حدث؟..
تأخر الوقت بهم، وغربت الشمس ودخل الليل وهم ما زالوا بعد داخل الأودية الفرعية الصغيرة، ثم هبت عاصفة رملية شديدة من تلك العواصف الخماسينية، حجبت عنهم الرؤية تماما واضطرتهم إلى البقاء فى مكانهم.. وإذا كانت العواصف تحجب الرؤية فى وضح النهار، فما بالنا إذا كان الليل مدلهما؟.. كما يقولون: فى الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفى الليلة الظلماء تكون صحراء الجبال موحشة، مخيفة، مفزعة..وأنا هنا أتفق كما أختلف مع نعمات فؤاد حين قالت فى مؤلفها «النيل فى الأدب المصرى»: «.. والطبيعة المصرية ليس فيها قسوة.. لا تعرف الزلازل والبراكين والعواصف.. حتى الصحراء المصرية فيها وداعة تبدد الوحشة».
لم يكن مع المجموعة ثياب تقيهم برد الليل، فقرروا المبيت داخل السيارة.. بدأ الخوف يتسرب إلى قلب السيدة ليك وأحست أن المأزق الذى انتهت إليه قد يكلفها حياتها..قالت: ماذا نصنع إذا هاجمتنا حيوانات مفترسة؟..نحن حتى لا يوجد معنا سلاح ندافع به عن أنفسنا..ثم إن الطعام والماء نفدا من بين أيدينا.. هل هناك أمل فى أن نخرج من هذا المكان سالمين؟..حينذاك خرج السيد ليك عن صمته وقال: صديقنا محمد قال لى: لا تحمل هما..لقد سمعتها منه مرارا.. ثم انفجر ضاحكا.
فى قنا كنت قلقا، خاصة بعد أن دخل الليل.. الوقت يمضى ولا أدرى ماذا حدث للمجموعة، حيث لم يكن موجودا لدينا أى وسيلة للاتصال.. انتابتنى هواجس كثيرة، وكان لابد من التحرك.. هاتفت القائم بعمل عميد كلية العلوم، الذى هاتف بدوره أحد المسؤولين بالمحافظة عله يعطينا سيارة ننطلق بها لإنقاذ المجموعة، فلربما كانت سيارتهم معطلة على الطريق.. حاولنا أن نستثير همته بالرجل الأسكتلندى وزوجه، وسمعة مصر، والعلاقات بين الدولتين، وكلام من هذا القبيل، لكن دون جدوى..قال زميلنا: لن يستجيب لهذا الأمر إلا الأجهزة الأمنية.. وقام فعلا بالاتصالات، واهتزت الدنيا فى القصير وسفاجا، وبالقطع فى أماكن أخرى.. طلبوا منا تأجيل التحرك إلى فجر اليوم التالى ولم يكن لدينا ما نفعله إلا الانتظار.. ف
ى الفجر انطلقنا إلى منطقة الفواخير، وعند فم وادى عطاالله وجدنا حملة كبيرة من مدينة القصير قد سبقتنا إلى المكان، وما هى إلا دقائق حتى طلعت علينا المجموعة قادمة من عمق الوادى.. انفرجت أسارير الجميع.. اقترب منى قائد الحملة وهمس فى أذنى قائلا: أرجو أن ترسلوا برقية إلى مسؤولينا، وإلى السفارة البريطانية حتى تعم الفائدة.. قلت: أفعل إن شاء الله.. لا تحمل هما..!
كنت سعيدا ومنتشيا، بل متباهيا بوجود الحملة أمام صديقينا الإسكتلنديين، فقد كانت فرصة مناسبة للتأكيد على شهامة ومروءة المصريين، خاصة وقت الشدة، وقد لاحظ السيد ليك همسة السيد قائد الحملة فدفعه الفضول ليسألنى، فلماأخبرته قال: محمد.. سوف نقوم بالمهمة نيابة عنك.. وكعادة الأوروبيين غمز بطرف عينه وقال: لا تحمل همًا!
عزيزى القارئ أنا أعلم أنك مثقل بأوجاع وهموم كثيرة، وأن هذه الهموم تنامت وتفاقمت فى الفترة الأخيرة وجعلتك مسهدا، مؤرقا، فاقدا للأمل، غير قادر على تحمل أى إضافة أخرى، حتى ولو كانت بسيطة، بساطة القشة التى تقصم ظهر البعير.. لذلك لم أشأ أن أحدثك هذه المرة عن الأوجاع والهموم وأن أكتفى بسرد هذه القصة، خروجا من الجو الكئيب الذى تعيشه ولو لدقائق، وأقول لك: لا تحمل همًا.. وأرجو ملحًا ألا تنفجر ضاحكا كما فعل السيد ليك.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.