فى اليوم الثامن من الشهر الجارى، أعلنت الهيئة العامة للسياحة والآثار فى السعودية عن اكتشاف أول رسومات وحفريات فرعونية ذات أهمية فى الجزيرة العربية.. قال نائب الرئيس للآثار والمتاحف بالهيئة العامة للسياحة والآثار هناك، الدكتور على إبراهيم الغبان، إن هذا النقش الهيروغليفى المكتشف يحمل توقيعاً ملكياً «خرطوش مزدوج» للملك رمسيس الثالث، أحد الملوك الفراعنة، الذى حكم مصر 1192 و1160 قبل الميلاد، وأضاف أن ذلك يشكل دليلاً على وجود طريق حضارى، كان يربط وادى النيل بشبه الجزيرة العربية عبر سيناء وخليج العقبة.. وأكد «الغبان» أن علماء الآثار السعوديين هم الذين قاموا بهذه الاكتشافات، وهم أيضاً الذين أجروا بحوثاً ميدانية ومكتبية، توصلوا من خلالها إلى وجود طريق تجارى مباشر يربط وادى النيل بمنطقة «تيماء»، والذى كان يستخدم فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد فى تسيير القوافل المصرية للتزود بالماء والبضائع الثمينة التى اشتهرت بها أرض «مدين»، مثل البخور والنحاس والذهب والفضة.. هذا ما نقلته وكالات الأنباء العالمية. ولى فى هذا السياق بعض التعليقات تتمثل فى عدة نقاط: أولاً: هذه التصريحات- بل ربما يجب تسميتها بالاعترافات - تعتبر قفزة نوعية فكرية هائلة.. هذا إذا أخذنا فى الاعتبار السياق الثقافى المسيطر على الخطاب العام فى المملكة العربية السعودية؛ فحتى الماضى القريب لم يكن من الممكن على الإطلاق فى ظل هذا الخطاب الخانق البوح على الملأ بمثل هذه الأشياء، لأنها كانت دائماً عرضة ل«فيتو» المؤسسة الدينية الوهابية المتعنتة، التى اعتبرت أن الاعتراف بأى تاريخ للبلاد فى خارج الحدود المجردة الكئيبة - معدومة الروح والظل واللون - التى لا تشمل حتى معظم التراث العربى الإسلامى - نوع من التشجيع على الوثنية والشرك بالله.. هذا هو المناخ الذى سمح بتدمير معظم الآثار الإسلامية هناك، ومن ضمن تداعياته ذلك المنظر الحزين، حيث تقف الفنادق مزدوجة الهوية، مطلة على أطلال حضارة مكةالمكرمة. ثانياً: من المهم الأخذ فى الاعتبار أن الطريق المذكور لم يكن فقط فقرة تواصل بين وادى النيل وشبه الجزيرة العربية، بل إن شبه الجزيرة العربية كان فى ذلك الحين وصلة بين حوض البحر الأبيض المتوسط وعالم الشرق الأقصى. وفى هذا السياق سأضطر للرجوع لمقدمة كتاب طه حسين التاريخى «مستقبل الثقافة فى مصر»، فمصر كانت، وستظل رغم اعتراض الكثيرين، جزءاً من حضارة متوسطية، لأن علاقاتها بعالم الشرق والغرب والعجم ترجع إلى ما قبل إسلامها، وهى علاقة تتوسط هذه الأعلام، لكنها تميل فى جذورها نحو الغرب حتى إن لم يكن ذلك واضحاً على الإطلاق الآن.. أما ما حدث فى بداية القرن الماضى فهو أن الحجاز بدلاً من أن يكون وصلة حضارية نحو الشرق كعادته، صار عقبة لتواصلنا مع الشرق والغرب معا. ومن طه حسين إلى الدكتور الغبان، الذى قال إن «اكتشاف هذا الطريق التاريخى سيشكل نقطة تحول فى دراسة جذور العلاقات الحضارية بين مصر والجزيرة العربية». أتمنى أن ذلك الكلام يشير فعلا تجاه سبيل تاريخى أكثر عقلانية سيسود المملكة السعودية.. سبيل يستطيع تحدى التيار الهمجى المقابل الذى لا يرى فى وظيفة المملكة إلا ترويج التعنت، والذى يدفع النخبة الحاكمة هناك للخضوع لمفكرى العصور الحجرية (لا الوسطى، لأن هذا مصطلح أوروبى).. فى سبيل تصدير أفكارها الأكثر رجعية، ليس فقط تجاه مصر إنما للعالم برمته.. كفى.. فالشعب السعودى لا يستحق تحمل هذه المسؤولية التاريخية. أتمنى النجاح للزملاء العلماء السعوديين فى سعيهم للانفتاح الفكرى، فمن الواضح أنهم قد خطوا خطوات ملحوظة فى هذا الاتجاه، بما فى ذلك نجاحهم فى تصنيف بعض الآثار النبطية فى أراضى المملكة السعودية رغم الاعتراضات الظلامية والظروف الصعبة التى يعملون خلالها. ونناشد الحكومة السعودية أن تساند هذه النخبة العلمية الشجاعة، الناتجة عن تطور البلاد الملحوظ ولحاقها السريع فى بعض المجالات بالعالم الحديث، الذى يرفض تدمير التراث أو إبقاءه «تحت الأرض»، على حسب «حل» الشيخ محمد النجامى. أخيراً والأهم، يجب ملاحظة أنه فى زمن يحدث فيه تقدم ملحوظ فى دول مثل السعودية نجد مصرنا فى تقهقر فكرى مزمن نحو الانعزال.. ولا يمكن لوم فقط «رياح الصحراء»، فبينما تستضيف مدناً مثل أبوظبى «متحف لوفر» موازياً لنظيره الأسطورى فى باريس، ونجد الآن فى مصر من يحاول تحريم التماثيل الفرعونية. لقد بدأت السعودية ودول الخليج الابتعاد عن الرؤية المتحجرة للتقاليد والدين التى شكلت ميراثها الحضارى. أما الآن فقد جاء الدور علينا فى مصر، مرة أخرى، لكى نشترك فى بناء مقاليد القيادة فى سبيل مساعدة قوى التحرر، أولاً داخلياً ثم فى العالم الذى يحيطنا، بدلا من التقهقر وراء منظومة سلفية منهارة. يجب بناء علاقاتنا بالمملكة السعودية على أساس جديد مفيد للطرفين، أساس مبنى على رؤية مشتركة لعالم عربى مندمج فى الحضارة الحديثة ومثمر لها ولا يشكل عائقاً لها.. عالم يشبه ما عبرت عنه الحفريات التى تكلم عنها الدكتور الغبان.