فى عصير فرغلى التقينا وعند عصير فرغلى يطيب اللقاء. احتضننى بحرارة مبديا إعجابه بكتابتى ومواقفى وببعض أفلامى، حمّلنى السلام إلى عدد مهول من الكتاب والفنانين والممثلين والمخرجين والمغنين، ثم عزمنى على عصير قصب وعندما أصررت على أن أرد له العزومة طلب «فراولة حبّ» وعندما طلبت لنفسى واحد فخفخينا قال لعامل المحل «خليهم اتنين فخفخينا»، ثم حدّثنى عن غرامه بعدد مهول من الكُتَّاب فى عدد لا بأس به من الصحف والمجلات والمواقع، كدت أدلق قطعة موز غارقة فى الفخفخينا على التيشيرت من فرط سعادتى بتسميعه لى فقرات كاملة كتبتها فى مواضع مختلفة وتواريخ متباعدة، وبعد أن كاد صدر عاصرى (فرغلى) يضيق بنا ضيق المحل نفسه، احتضننى مجددا وقبل أن يمشى قال لى بجدية مَنْ أوشك على أن يجيب التايهة «بس إنتو متفقين مع الحكومة.. صح؟.. وإلا ماكانتش تسيبكوا كده؟». نظرت إليه نظرة رأس حربة لحكم لم يحتسب «بلانتى» صريحا، تذكرت كيف سيكون منظرى أمام محل فرغلى فرع ميدان الدقى وأمام ميدان الدقى نفسه لو اشتبكت معه بدنياً، لأشفى غليلى على الوقت الذى ضاع معه وعلى الأمل الذى انبثق من كلامه ثم تبدد، وعلى الفخفخينا التى لهطها على حسابى، لو كان لفرغلى فروع كثيرة لتهورت، لكنهما فرعان فقط، ومنعى من دخولهما سيكون أمرا شاقا على النفس، كنت أستطيع أن أعتمد على عصير (توت اكسبريس) مدى الحياة لكننى كنت مؤمنا دائما بتنويع مصادر العصير، ولذلك أخذت نفسا عميقا وطلبت خروباً دون أن أسأل صاحبنا هذه المرة عما يريد أن يشربه، وهو ظل حائرا ينتظر إجابتى دون فهم لما ألمَّ بى، ضربت العصير على بُقّ واحد ثم قلت له «ألا أنا مااتعرفتش على اسم حضرتك صحيح»، ارتبك للغاية وأخذ ثوانى ليرتجل اسماً لا علاقة له باسمه، ولم يسعفه الوقت ليخترع سوى اسم «صادق نبيل» الذى كنت قد قرأته قبلها بيوم فى بريد الجمعة، أمسكت بيده وقلت له «شوف.. أنا أهنئك على ذكائك الساحق يا أخ صادق.. ومكافأة لك قررت إنى مش هاسيبك لأنى ماصدقت لقيتك.. بكرة سأصحبك إلى تحقيق سأمثل فيه أمام النيابة العامة غدا.. وبالتأكيد ستستمتع للغاية عندما تشاهد كيف سنجلس أنا ووكيل النيابة لكى نتفق على التحقيق وكيف سنقوم بإخراجه سوياً.. وبعدها بيومين سأصطحبك إلى جلسة لمحاكمة إبراهيم عيسى وبعدها بأسبوع فى جلسة لمحاكمة وائل الإبراشى.. يعنى هتهيص بقى وإنت بتشوف بنفسك لعبة السياسة قدام عينيك»، كانت عيناه تزدادان زوغاناً مع كل كلمة أنطق بها، انتزع يده من يدى راجعا إلى الخلف ومرتطما بشخص يرتشف بتلذذ عصير كيوى، وقبل أن يطبق الرجل فى زمارة رقبته ليحمْله مسؤولية توسخ هدومه كان صادق الكاذب قد اختفى من المحل والميدان والدقى. لم يكن ما قاله أخونا الطيب جديدا بالنسبة لى وإن كان مريرا، كنت قد تكبدت عناء الرد على كلام يشبهه بشكل منطقى مهذب فى إيميلات كثيرة، وكان يخف يوما بعد يوم مع كل حملة صحفية عاتية واطية تشن ضدى أو ضد غيرى من الكُتَّاب، أو بعد كل سلسلة قضايا تُجرجر فيها الصحافة إلى المحاكم، أو بعد كل تصريح يطلقه مسؤول ضيق الصدر بحرية الصحافة التى يعتبرها منحة من الرئيس مبارك والذى آن له أن يسترد منحته، لكنه ظل موجودا بشكل أو بآخر لدى قطاع من القراء الذين لم يستوعبوا بعد كل هذه السنين من معاشرة العفن الصحفى، أن هناك من يؤمن بأن حرية الصحافة ليست منحة من الحاكم بل هى حق يجب انتزاعه بمزيد من التضحيات التى يجب أن تدفع عن طيب خاطر لكل من يريد لمصر ألا تُهان مجددا بنسبتها إلى حاكم أياً كان. اليوم وفى ظل هذه الحملات العاتية التى تواجهها الصحافة الحرة، وفى ظل هذا الإرهاب الذى يرفع شعار «كفاية عليكو لحد كده»، أتذكر صديقى المختبئ تحت اسم صادق نبيل، فأتخيله مكسوفا من نفسه بعد أن أدرك أن ما كانت تفعله الصحف المستقلة والحزبية لم يكن لعبة أبدا، وإنما كان كفاحا لتوسيع هامش حرية الصحافة الذى ظل ضيقا سنين طويلة وتوسع بجرأة مئات الصحفيين المصريين وجدعنتهم وإيمانهم أن الصحافة موقف، بكسر القاف، لا موقف، بفتح القاف، «يركن» فيه كل صاحب سلطة أو ثروة أو طموح سياسى حسب الطلب وعند اللزوم. ونكمل غدا بإذن الله إذا عشنا وكان لنا نشر. [email protected]