أمى قالت إفيهاً عالياً جداً قبل أن تصعد إلى غرفة العمليات. كانت قد أخذت حقنة التخدير الأولى لتوّها، نظرت إلىّ وهى تغالب النوم وقالت لى ضاحكة «أنا خايفة أروح فى النوم». وأنا حمدت الله لأنها راحت فى النوم سريعاً قبل أن ترانى وأنا أبكى. كنت أحتاج إلى البكاء بشدة، ربما لأننى لم أبك منذ أيام، فأنا أُحرم قسراً من البكاء طيلة الوقت الذى تقيم فيه أمى لدىّ، لأننى أكون منشغلاً أغلب الوقت بدفعها إلى التوقف عنه، نحن لم نعد نقعد براحتنا كثيراً زى زمان، وأمى لا تحب أن تبكى أمام أحد غيرى، ولأن البكاء فى التليفونات محظور، طبقاً لاتفاق سابق بيننا: «يا أمى أحب أشوفك وانتى بتعيطى قدامى عشان أطمن عليكى»، لذلك نحاول استثمار الوقت الذى نقضيه سوياً فى تقليب كل المواجع الساكنة أو حديثة التقليب، نظل هكذا أحياناً لساعات، أمى تبكى وأنا أسخر مما تبكى عليه، مهوناً من شأنه لكى أدفعها إلى موضوع آخر يستحق البكاء من أجله، وزوجتى لا تفهم أبداً كيف تتقبل أمى تعليقاتى الساخرة من كل ما تحكيه أمى من أحزان، فى البداية كانت تقول لها بدهشة «أنا مش فاهمة انتى إزاى ساكتاله يا طنط»، حتى اضطررت أن أشرح لها أن ما أقوم به وسيلة علاجية لمنح الأحزان نكهة تخفف طحنها لعظام الروح، ومع أننى قلت ذلك بالعربية الفصحى إلا أن زوجتى لم تقتنع، وقررت أن تتعامل مع الأمر بمنهج آخر أكثر منطقية «طيب أسيبكو مع بعض بقى شوية». عندما قاسوا لأمى الضغط قبل موعد العملية بساعات ووجدوه عالياً نظرت لها باستغراب، وعندما هربت بعينيها بعيداً عنى، تأكدت أن فى الأمر سراً، انتظرت حتى خرجت الممرضة، ثم قلت لها بصوت تعمدت أن يبدو ناشفاً «هه.. خير إن شاء الله»، وهى نظرت فى عينى مباشرة وقالت بحزم «دى طريقة تكلم بيها أم داخلة تعمل عملية كمان ساعتين؟!»، وعندما ضحكت من قلبى قالت لى «عاجباك قوى.. طيب إبقى خلى عبلة كامل تقولها فى الفيلم الجاى.. واخرج شوف لى الدكتور وانت ساكت». فيما بعد وعندما وضعوها على السرير الذى سيصعد بها إلى غرفة العمليات قالت لى بجدية «وله يا بلال.. عايزة أعترف لك بحاجة»، ظننت أن روح الدعابة ستتملكها وتعترف لى بأنها خالتى وليست أمى، وهى لم تتركنى أترجم ظنى إلى تعليق ساخر، فقالت لى سريعاً بالجدية نفسها «بصراحة الضغط كان عالى.. عشان واحنا جايين امبارح من عندك خبيت فى الشنطة حتتين جبنة تركى وكام زتونة.. كنت هاتجنن لو ماكلتهمش.. ما حدش عارف إيه اللى ممكن يحصل»، وأنا قررت قمع رغبتها فى التصعيد الدرامى، فقلت لها «بالهنا والشفا.. طب ماكنت جبتلك حتتين بسطرمة بالمرة». دكتور التخدير الذى شاركنى فى تلقى الاعتراف توقف عند تفصيلة لم أتوقعها «جبنة تركى.. انتى اسكندرانية يا مدام؟»، وأنا شعرت أنه رجل ذوق جداً لأنه لم يقل لها يا حاجة، ثم أضاف «شايفة آدينى عرفت أول سر من حضرتك قبل التخدير»، بصراحة لم أجد أنه من اللطيف أن يمزح أحد مع أمى حتى لو كان طبيب تخدير فى عمر والدى، أو ربما لم أسترح لذلك المزاح لأنه لم يكن فى عمرى أنا، وأمى بدورها ردت رداً مباغتا «يا دكتور صعب على واحدة خلفت حداشر عيل إنه يكون عندها أى أسرار»، ضحكنا أنا والطبيب والممرضة من أعماق قلوبنا، قبل أن تعاودنى الرغبة المُلحة فى البكاء. أخذ الدكتور البارع الذى يفيض بالإنسانية يشرح لها أهمية أن تحصل على مسكنات بعد إفاقتها من العملية لأن بعض المرضى يقلقون من الحصول على مسكنات ويتخلون عن حقهم فى عدم الشعور بالألم، كان يتحدث معها ببراعة كأن العملية تمت ونجحت خلاص، بدا خبيراً جداً فى التعامل مع الذين يبدون واثقين وهم ليسوا كذلك، والأهم أنه كان لطيفاً جداً لدرجة أنك تحب أن يتم تخديرك على يديه، لا أدرى إذا كان يقول تلك الجمل اللطيفة التى يقولها لكل المرضى، أم أنه يختار منها حسب طبيعة المريض، لكن لفت انتباهى أن شعره الأبيض وصلعته المهيبة يمنحان كل ما يقوله مصداقية عالية لعلها عجلت بنوم أمى قبل أن أسألها: هل تبقى شىء من الزيتون والجبنة التركى؟. ليتها كانت أطول تلك الثوانى التى قضيتها متأملاً فى وجه أمى الجميل قبل أن يصحبوها إلى غرفة العمليات، لو كانت أطول لربما حققت حلمى الطفولى القديم فى عد الحسنات التى تزين وجهها القمحى المشرق، وهو الحلم الذى لم تتعامل معه أبداً بتقدير لائق، بل كانت تستخف به بعبارات من نوعية «ليه يعنى هتعمل لهم جرد.. إذا كان أبوك ماعملهاش.. أصلك ماشفتش إنت الحسنات دى زمان كانوا حَبّ شباب»، قبل أن تختم بالعبارة التى تشبع بها رغبتها الدائمة فى تذكيرى بالآخرة «وبعدين مش دى الحسنات اللى هتنفعنا يوم القيامة يا فالح». [email protected]