"تررررررررررررررررررررررررررررررررررررررن" كان هذا صوت تقليدي للمنبه التقليدي على ذلك الكومودينو التقليديّ في تلك الغرفة التقليدية والذي أيقظه في الساعة الخامسة والنصف فجراً، قام من فراشه ببطء متملكاً منه شعور كبير بالكسل والإرهاق وعدم الرغبة في الاستيقاظ، احتار في سبب هذا الشعور الذي يراوده لأول مرة، فكر فيه لمدة ثانية واحدة، فلقد كان يعلم أن سبب هذا الشعور لم يكن لأنه قد عاد إلى منزله بعد منتصف الليل بعدما اضطرته الظروف إلى السهر في العمل" لتخليص الشغل المتأخر"، أو لأنه لم يستطع النوم جيداً لأن الشاب الذي يسكن بالشقة المقابلة قد حول شقته إلى أستوديو تحليليّ لمباريات البلاي ستيشن، أغلب الظن أن سبب هذا الشعور هو أنه لم يعد لديه حماس كافي للعمل، لم يعد لديه حماس كافي للقيام بما تعود طوال عشرون عاماً أن يقوم به، ربما لأنه بعد تخرجه من كلية العلوم بتقدير مرتفع اعتقد بأن مكانه سيكون في المعمل وسط الأبحاث والتجارب ولكنه وجد نفسه في الأرشيف بين الملفات والأتربة، لكن ما باليد حيلة قال " الإيد قصيرة والعين بصيرة" وطلبات الزوجة والأولاد لا تنتهي. قام من مكانه مطأطأ الرأس "منعكش" الشعر يجر قدماه جراً مما جعلهما تصدران صوتاً عند احتكاكهما بأرضية الغرفة الخشبية الخالية من السجاجيد يشبه صوت فحيح الأفاعي "اللي بتقول فوو فوو فوو"، طرق باب الحمام لا يدري لماذا يطرقه فهو يعلم أن الجميع نياماً ولكن يبدو أنها العادة، لا يستطيع أن يبدأ يومه إلا بعد أن يأخذ حماماً بارداً، صيف أو شتاء لا يهم، "الدُش" لا بد أن يكون بارداً، هو لا يتشاءم أو يتفاءل بهذا لكنها العادة أيضاً، فتح "الحنفية" ونظر إلى "الدُش" في انتظار نزول المياه، طال انتظاره ووقوفه، لم تنزل المياه التي دائماً ما تذكره بمياه الأمطار التي كان يركض أسفلها وهو صغير، كل ما حصل عليه هو صوت زمجرة أو حشرجة وارتجاج في المواسير وكأنها تريد أن تنفجر، أن تبوح بأسرارها، أن تظهر ما كانت تخفيه طوال عشرون عاماً قضتها في كنف هذا الرجل، نظر لها راجياً مترجياً متوسلاً أن تترك كل ما تعانيه وتشعر به الآن، استحلفها بكل ما هو عزيز، بكل ما هو غالي، بكل ما هو نفيس أن تتنازل عن مشاعرها وأحلامها فقط من أجله، من أجل بضع قطرات من المياه التي لا بد أن يبدأ بها يومه المشحون. ارتفع صوت الزمجرة وكأنه يعلن عن العصيان، ازداد الارتجاج وكأنه علامة عن مزيد من الغضب، ثم سكت كل شيء دفعة واحدة، وبدون مقدمات هدوء تام، أصبح لا صوت يعلو فوق صوت المياه المنهمرة والمعبرة عن رضوخ تام لطلباته التي لا تنتهي هي أيضاً، رضوخ تام يصاحبه سحابة من الكبرياء ولمحة من الكرامة والعزة بالنفس، فالمياه لم تكن كما تعودها دائماً، بل كانت مليئة بأتربة جعلت لونها الشفاف يتحول إلى لون بني داكن يلاحظه جيداً على الرغم من ذلك الضوء الواهن الضعيف لتلك اللمبة المعلقة وحيدة في سقف ذلك الحمام الضيق، لون داكن جعله يتخيل نفسه يأخذ حماماً في الوحل. خرج غاضباً، فهو لم يأخذ حمامه المعتاد، راوده شعور بأن اليوم لن يمر على خير ما يرام "الفار بيلعب في عبه وعينه الشمال بترف"، سرعان ما نفض هذا الشعور عن كتفيه، فهو لا يتشاءم أو يتفاءل بمثل هذه الأمور، وجهته كانت إلى "فرن العيش البلدي" الذي يبدأ عمله من بعد صلاة الفجر وحتى العاشرة صباحاً فقط، تعود كل يوم أن يقف في هذا الطابور الطويل للحصول على خمسة أرغفة لكي يفطر بها هو وزملاءه في العمل، خيل له أن الطابور أقصر من المعتاد، لا يهم، بدأ في إضاعة الوقت وذلك بالتحدث مع الواقف أمامه أو الواقف خلفه، الحديث دائماً ما يكون عن أمور الحياة، فلقد تكونت بينهم علاقة صداقة طابورية، لا يهم عن ماذا يتكلمون أو في ماذا يفكرون، فهو لن يتذكر كلمة واحدة مما قالها هو أو قالها أحد الواقفين معه، وكذلك حال الجميع، كل ما في الأمر أنه يريدون تهوين طول الوقفة بالانشغال عنها بالحديث، بينما هو يتحدث قفز إلى ذهنه سؤال هام، هل يخبزون العيش بنفس تلك المياه المحملة بالأتربة التي رآها في حمام منزله المتواضع؟ قبل أن يجد إجابة شافية هاجمه سؤال آخر، هل سيكون هناك فرق ما إذا كانت المياه المستخدمة نظيفة أم لا؟ أم في كلا الحالتين سوف يشتري العيش؟ كانت الإجابة واضحة كنور الشمس في كبد السماء الصافية، العيش يحتوي على أتربة على مسامير على ذيل فأر لا يهم، المهم أن يجد ما يكمل به وجبة الإفطار. الطابور يتحرك ببطء شديد، وكأنهم في إحدى إشارات المرور اللانهائية، ثم توقف الطابور فجأة ولمدة طويلة، أفاد أحد الظرفاء بعد طول توقف "أكيد في موكب وزاري معدي"، ضحك الجميع ضحكة يخفون بها ما يتملكهم من هموم ألقتها الدنيا عليهم وعلقتها في أعناقهم، طال الانتظار وبدأت عملية الململة، كان السؤال وكانت الإجابة المفحمة "مفيش دقيق"، يعلم الجميع أن صاحب الفرن يبيع الدقيق في السوق السوداء، ومع ذلك لم يبلغ عنه أحد لسبب بسيط، إذا قامت الحكومة بغلق الفرن وسحب الترخيص، من أين سيأتون برغيف العيش؟؟ "لسه الفار بيلعب في عبه وعينيه الاتنين بيرفوا" ،"اليوم باين من أوله" لكنه لا يتشاءم أو يتفاءل بمثل هذه الأمور. أكمل سيره متجهاً إلى محطة الأتوبيسات، هو يعلم أنه محظوظ أنه دائماً ما يركب الأتوبيس من محطته الأولى وهو تقريباً فارغ لينزل منه في محطته النهائية، فهذا لن يعرضه للوقوف أو المزاحمة أو السرقة من هؤلاء النشالين المحترفين، هو في الأمان، بحث بنظره عن رقم 78 وكان هذا هو رقم الأتوبيس الذي يستقله كل يوم، طال بحثه ولم يعثر على شيء، أخرج منديلاً مسح به عدسات النظارة وبحث من جديد،" هو الأتوبيس اتسرق ولا إيه"، كان هذا ما يدور بذهنه وقتها لكن الكمسري والذي أصبح يعرفان بعضهما جيداً أخبره أن اليوم عطلة رسمية وأغلب الخطوط تم إلغائها وتحويلها إلى المنتزهات العامة، كيف نسي هذا؟، كيف نسي أن اليوم عطلة رسمية، هنا فقط تذكر أنه بالأمس تأخر الجميع في العمل لتعويض يوم العطلة الرسمية، هنا فقط تذكر أن ذلك الشاب أقام حفلة في شقته لأن اليوم عطلة رسمية، هنا فقط تنبه لماذا كان هذا الشعور بالكسل وكأن عقله الباطن يريد أن يخبره، هنا فقط تنبه إلى أن زوجته لم تستيقظ باكراً كعادتها، هنا فقط أدرك لماذا الطابور كان أقصر من المعتاد، هنا فقط أدرك أنه "ضبط" المنبه على الخامسة والنصف فجراً لأنها على ما يبدو العادة فقط، فلقد تعود على ذلك طوال عشرون عاماً. " تررررررررررررررررررررررررررررررررررررررن" كان هذا صوت تقليدي للمنبه التقليدي على ذلك الكومودينو التقليدي في تلك الغرفة التقليدية والذي أيقظه في الساعة الخامسة والنصف فجراً، قام من مكانه مطأطأ الرأس" منعكش" الشعر يجر قدماه جراً، طرق باب الحمام، فتح" الحنفية" ونظر إلى" الدش" في انتظار نزول المياه، طال انتظاره ووقوفه ولكن لم تنزل المياه، كل ما حصل عليه هو صوت زمجرة أو حشرجة وارتجاج في المواسير، تذكر ما حد يوم أمس، ارتدى ملابسه وعاد إلى فراشه لينام من جديد، هو لا يتشاءم أو يتفاءل بمثل هذه الأمور ولكنها على ما يبدو العادة، فلقد تعود على ذلك منذ ليلة أمس. بقلم م / مصطفى الطبجي