كان «تشرشل» رئيساً لوزراء بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان مشهوراً بسخريته اللاذعة، وقد جاء عليه يوم تلقى فيه دعوة من «برنارد شو»، أديب إنجلترا الأشهر، لحضور عرض إحدى مسرحياته فى لندن، وكانت الدعوة تقول الآتى: يشرفنى حضورك العرض ويمكنك أن تصطحب معك واحداً من أصدقائك إذا كان لك صديق!!.. وكان رد «تشرشل» أشد فى سخريته، وأكثر حدة فقال فى رسالة إلى «شو»: يؤسفنى أننى لن أستطيع حضور عرض الليلة، ولكننى سوف أسعى لحضور عرض الغد إذا كانت المسرحية سوف يكون لها عرض آخر! ومع ذلك فقد كان «تشرشل»، رجل دولة من الطراز الأول، وكان رساماً وكان يعيش تقريباً على عائد بيع لوحاته ومذكراته ولم يكن مليونيراً بالطبع ولا كان رجل أعمال! وفى أجواء الكساد الذى كان قد ساد العالم قبل الحرب الثانية لاحظ الرجل وقتها أن هناك مناخاً من شيوع عدم الثقة فى القطاع الخاص إجمالاً وفى كل صاحب ثروة بشكل خاص، وكانت العلاقة فى ذلك الوقت بين العمال وأصحاب العمل فى أسوأ مراحلها وكانت النظرة إلى كل صاحب أعمال مليئة بالشك وسوء الظن! وقد أدرك تشرشل بذكائه خطورة استمرار طقس عام، من هذا النوع، على مستقبل اقتصاد أى بلد، فكتب فى أوراقه سطوراً كان فيها وكأنه يخاطبنا نحن اليوم، رغم أنه كتبها فى عام 1939. كتب الرجل فى زمانه يحذر من تنامى تيار عام يرغب فى اصطياد كل صاحب أعمال وكأنه وحش يجب القضاء عليه، وكان التحذير ينبه إلى أن الانجراف، وراء رغبة كهذه، سوف يلاقى بالضرورة هوى فى نفوس الجماهير، وسوف يكون جذاباً للذين يمارسونه، غير أن هذا كله لو انساق وراءه أصحابه، دون وعى بعواقبه، سوف يؤدى حتماً إلى اهتزاز الثقة فى أى عمل خاص، وسوف يؤدى إلى تجمد الاستثمار فى كل اتجاه، وسوف يؤدى إلى طوابير من العاطلين، وسوف يكون على الحكومة أن توظفهم، وسوف تجد نفسها مضطرة، والحال هكذا، إلى تعيين خمسة أفراد مثلاً للقيام بعمل يمكن أن يقوم به شخص واحد، بما يقود مباشرة إلى البطالة المقنعة، وهو بالضبط ما تواجهه الحكومة المصرية فى 2010، بعد أن كان عبدالناصر قد انزلق إلى ما حذر منه تشرشل من قبل، حين قال فى حينه - ما معناه - إن الجماهير يمكن أن تكون سعيدة بوقوع مطاردات كهذه لأصحاب الأعمال، دون أن تنتبه إلى أن ذلك ليس حلاً، وأن أقصى ما سوف يعود به كل فرد من هذه الجماهير المندفعة إلى بيته مجرد قطعة من لحم كل صاحب أعمال! وهو بالضبط ما حدث عندنا فى الخمسينيات والستينيات، حين اكتشفنا بعدها أن كل الذين فرحوا بمطاردة القطاع الخاص، ورموزه بعد الثورة، قد عادوا إلى بيوتهم بقطعة من لحم أبورجيله، أو السيد ياسين، أو عبود باشا، لا أكثر من ذلك، ولا أقل، ليبقى الحل الوحيد فى الحرص على القطاع الخاص، ثم دعمه بكل قوة كيف ولماذا؟! هذا ما سوف نعود إليه بإذن الله.