يبدو أن هذا سؤال لا محل له، وأن مجرد إيراده يثير الدهشة، فنحن لم يكن لدينا ما نتكلم عنه إلا العقيدة وأهميتها ثم نأتى الآن ونقول: أى عقيدة؟ هذا يعود إلى حقيقة لم ينفسح السياق السابق للإشارة إليها على أهميتها. تلك الحقيقة أن فهم الإسلام كله، وليس العقيدة والشريعة بل أيضاً الروافد المهمة، من تفسير وحديث وفقه السائد الآن والمسلم به والذى تدعو إليه المؤسسة الدينية والذى يؤمن به المصلحون وتنادى به الدعوات الإسلامية على اختلافها المتشددة والمعتدلة، بل التى يفخر بها كل هؤلاء من دعاة، أو هيئات، أو أزهر أو فقهاء هو الفهم السلفى للعقيدة. وهو فهم يختلف عن الفهم القرآنى، كما يختلف عن الفهم النبوى . إنه باختصار فهم الأسلاف. وإذا أردنا محددات لهذا الفهم لقلنا إنه يشترط: (1) اتباع المذاهب السُنية الأربعة. (2) قبول ما تعرضه التفاسير المعتمدة مثل الطبرى والقرطبى وبن كثير .. إلخ، واستمداد الأحكام منها وكذلك قبول كل «علوم القرآن» من ناسخ ومنسوخ وأسباب النزول ..إلخ. (3) قبول ما قرره المحدثون فى علوم الحديث رواية ودراية والتسليم على الأقل بصحة أحاديث البخارى ومسلم. (4) توقير السلف الصالح وعدم المساس بهم واستلهامهم إن لم يكن فى الأحكام، فعلى سبيل الأسوة. وفى الوقت الذى تعتز فيه الدعوات الإسلامية على الساحة بهذا الميراث السلفى، ويؤمن به الكتَّاب والدعاة الإسلاميون، ويعد كل خارج على هذه الضوابط الأربعة شاذاً، أو منحرفاً أو مائلاً عن الخط المستقيم ويتعرض للاتهام بشتى التهم، فإن دعوة الإحياء الإسلامى ترى أنه لا تقدم إلا بعد مجاوزة هذه السلفية، وأن التمسك بها لن يسمح بأى تقدم وإنما يعنى الجمود وبالتالى التخلف. وهذا ما يتطلب إعادة كتابة منظومة المعرفة الإسلامية بفروعها الثلاثة التفسير والحديث والفقه وهذا الأمر على جسامته، وعلى أنه يصدم الكثيرين، فلا مفر منه. لا الترقيع يصلح، ولا التجزئة تصلح، ولا التدريج يصلح، هذه كلها مسكنات وعلاجات وقتية لا تلبث أن تتبدد. ولماذا يكون لا مفر منه..؟ الرد لأن الالتزام به يعنى التخلف. وما الدليل على ذلك..؟ الدليل على ذلك واقع المسلمين المتمسكين بهذا الفهم السلفى والملتزمين به. فالواقع المتخلف المتدهور يضعنا أمام سؤال إما أن هذا التدهور والتخلف يعود إلى هذا الإسلام الذى يلتزم به المسلمون خاصة أننا نجده (أى التخلف) حيثما وجد المسلمون، فى الشرق والغرب والشمال والجنوب.. وإما أن هذا الذى يؤمن به المسلمون ليس هو الإسلام الحق لأن الإسلام الحق نهض بالمسلمين ولم ينزل بهم. وهذا التحليل الأخير هو الحقيقة والصواب وأمامه لا يكون مفر. ولماذا ننزعج، ونندهش، ونخاف، ونحجم.. هل الذى وضع هذا التراث ملائكة نزلوا من السماء؟ هل هم أناس لهم عصمة ووصفوا بالكمال دون الناس؟ ألم يقل أبوحنيفة منذ أكثر من ألف وثلاثمائة عام «هم رجال.. ونحن رجال»، أفلا يحق لنا أن نقول إننا اليوم أقدر من أسلافنا على العمل بفضل ما توافر لنا من أدوات ومعدات البحث وبفضل الثورة الثقافية التى جعلت المعارف تنهمر كسيل جارف. نحن لا نحس عجزًا، ولا يتملكنا خوف، بل إننا بالفعل قد وضعنا الخطوط الأولية لإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية وشرحنا هذا بنوع من التفصيل فى كتاب «تجديد الإسلام» ويمكن تلخيصه كالآتى: أولاً: إثبات أن الإسلام إنما أنزل للإنسان وليس العكس، ذلك أن مشيئة الله تعالى اقتضت أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض فخلقه فى أحسن تقويم، وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وهذه وقائع لها مدلولاتها بالطبع، وحرصاً على هداية الإنسان وتسليحه ضد الغوايات، ولدعمه عندما تٌعرَّضه أوضاع ما للإذلال والاستغلال أنزل الله الإسلام «ليخرج الناس من الظلمات إلى النور» وليضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم»، فالإسلام فى جوهره رسالة تحرير والرسول فى حقيقته زعيم جماهير، والغرض من وراء كل هذا هو الإنسان وإعداده ليكون أهلاً لما أراده الله له خليفة على الأرض. وقد أثبت كتاب «تجديد الإسلام» كيف أن الديانات كلها كانت هى التى أنقذت الجماهير المستعبدة من إسار الجبروت: اليهود فى مواجهة الفراعنة، الأرقاء والمستضعفون فى مواجهة روما.. وأخيرًا القبائل العربية المتنازعة لتكون أمة تحمل الكتاب والميزان ولم تكن هناك قوة أخرى غير الأديان تعنى بالجماهير ولا تقوى على صد جبروت الأباطرة والفراعنة والقياصرة. وأثبت الكتاب أن المجتمع النبوى فى المدينة وهو الوحيد الذى يمثل الإسلام ويحسب عليه كان مجتمعاً إنسانيًا بمعنى الكلمة يوفر الكرامة والأمن للإنسان من واقع فهم المسلمين وقتئذ لدينهم وأن شرعة المساواة كانت هى القانون الأعظم فى مجتمع المدينة، وأن سلطة الحكومة كانت مقيدة من البداية بقبول الجماهير وفى النهاية بحق الجماهير فى تقويمها وعزلها.. ولا يؤثر على هذا أننا لم نجد كلمات «الحرية» أو «حقوق الإنسان» لأن للأديان تعبيراتها الخاصة التى تعبر بها عن هذا المضمون نفسه، فالبراءة الأصلية وفكرة أن الحرام هو ما جاء نص صريح بتحريمه فى القرآن يحقق الحرية بأوسع معانيها ومجالاتها، وحق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، يحقق التكافل الاجتماعى وفرض الزكاة التى تؤخذ من الأغنياء لتعطى للفقراء يحقق «التكافل الاقتصادى»، وكان الإنسان فى المدينة عهد الرسول آمنا فى سربه لا يتصور أن يهجم عليه بوليس ويزجه فى السجن فالمدينة لم يكن لها بوليس ولم يكن فيها سجون. ثانيًا: إن هذه الفترة التى حققت «اليوتوبيا» التى تمناها الفلاسفة انتهت سريعًا، ربما بمجرد أن طعن عمر بن الخطاب، وربما طالت شيئاً ما ولكنها انتهت نهاية مأساوية ومؤسفة سنة 40 هجرية عندما أحل معاوية بن أبى سفيان الحكم العضوض محل الخلافة الراشدة ونقل العاصمة من المدينة إلى دمشق. من هذه اللحظة بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الدولة الإسلامية، مرحلة حافلة بالحكم المطلق، وإهدار كل الحقوق والحريات، ووصلت هذه المرحلة إلى قمتها فى القرنين الثانى والثالث للهجرة – عندما بلغت المرحلة الإمبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس أو «لا يتجاوزها السحاب». ولا تقتصر طبيعة هذه المرحلة على الحكم المطلق، إذ إنها اتسمت بظهور ملل ونحلل شاذة، منحرفة، من آثار الوراثات القديمة لحضارات الشعوب التى فتح الإسلام بلادها كما دخلها أجناس من ترك، وفارسيين، وديلم، وكرد.. إلخ، وتأثر فقهها وفكرها بآثار الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو. فى هذه الفترة بالذات وضع الأسلاف منظومة المعرفة الإسلامية. (لاحظ أن أحمد بن حنبل الممثل الأول للسلفية عاصر حكم المأمون والمعتصم، أى القمة التى بلغتها الإمبراطورية وبدأت بعدها فى النزول.وتحتم على الفقهاء سياسيًا، وسيكولوجيًا وعمليًا، شاعرين أو غير شاعرين، راغبين أو غير راغبين أن تصدر أحكامها بما يتفق مع طبيعة المرحلة الإمبراطورية للدولة، وليس بما يتفق مع الأصول التى قررها القرآن وطبقها الرسول، لقد انتهى عهد الإنسان وبدأ عهد السلطان، انتهت الأوضاع القرآنية النبوية الإنسانية وجاءت الأحكام السلطانية السلطوية المستبدة، وظهر هذا فى أحكام تأمر بطاعة الأمير وإن جلد ظهرك وغصب مالك، وتغفل الزكاة بينما توثن الصلاة، وتصطنع صيغة «من جهل معلومًا من الدين بالضرورة» فهو مرتد وتقنن دونية المرأة، وهذه كلها تتناقض مع ما كان قائمًا فى المرحلة النبوية والخلافة الراشدة بقدر ما تتفق مع مقتضيات الدولة الإمبراطورية. ختام الكلام على كل الذين يعملون للإصلاح أن يدعموا الدكتور البرادعى وأن يتكتلوا وراءه فى جمعيته فيتناسوا خلافاتهم ومطامعهم، إن الدكتور البرادعى لقية من السماء لأنه على وجه التعيين أفضل من يقود حركة التغيير، إن إدارة هيئة دولية مهمة هى أقرب الممارسات إلى إدارة دولة، فالمطلوب فى الحالين هو الشجاعة وسعة الأفق والنقاء، واستمراره فى منصبه الذى لم ترشحه مصر له ثلاث دورات يحكم بمقدرته، وقضاؤه قرابة عشرين عامًا فى صميم قلب العالم الحر يجعله يأنف ويقرف ويرفض حالة الفساد المستشرى وإهدار كرامة الإنسان المصري، وصفته الدولية التى لم يظفر بها أحد آخر تحول دون أن تمارس السلطة ألاعيبها معه، وأخيرًا فإنه رغم غربته مصرى صميم.. جاد، وإذا أخلصوا له فيمكن أن يقودهم إلى النصر، وإذا فرطوا فلا يلوٌّمن إلا أنفسهم. بعد كتابة هذه السطور قرأت كلامًا يُنسب لجهاد عودة من أن السلطة يمكن أن تعتقل الدكتور البرادعى قياسًا على ما حدث لأيمن نور، وهذا القياس يوضح لنا أن السلطة تعمى وتصم وتجعل من أذكى الأذكياء أغبى الأغبياء. [email protected] [email protected]