اليوم أحكى لكم عن إنسان شاءت ظروفى أن أقترب منه، وأشاهد شموس باطنه تشرق فى أفق المحبة. ليس واردا طبعا أن أذكر اسمه أو أُشير إلى شخصيته، فهو أرغب الناس فى التخفى وأزهدهم فى الثناء. ولولا ما أتوقعه من استعادة الثقة فى (الخير الخفى) وسط (الباطل المُعلن) ما كتبت هذا المقال. ............... صافى القلب بالفطرة والسليقة، متوغل فى أسرار المحبة، وطريقه صاعد إلى السماء. تدينه راسخ، وحزنه عميق به لوعة ورقة وغرام. شاهدته فى مئات المواقف عبر رحلة العمر. مفروغ منه أن الإنسان المتدين يتدفق بالرحمة الربانية ويرأف بالناس جميعا، لاسيما الضعفاء. لكن صديقى هذا يتميز بالتدين الرومانسى ويمتد عطفه إلى كائنات صغيرة فى مواقف شديدة الدقة لا يفطن إليها عامة الرحماء. أذكر أننا كنا فى مرحلة الصبا، إذ هو يكبرنى بعام واحد، وكنا جالسين فى حديقة النادى حين انقطع التيار الكهربائى وغرقت الحديقة فى ظلام عميق. حينما أصلحوا العطل وعاد النور ارتفعت زقزقة العصافير على الشجر، والأغلب أنها توهمت مجىء الصباح. لاحظت معالم الألم على وجهه، قال إنه حزين من أجل الطيور التى ظلمتها حضارتنا حين أربكت فطرتها فى مواعيد النوم والاستيقاظ!! وأذكر أننا كنا شبابا فى منتصف العشرينيات على شاطئ البحر، نرقب ظاهرة المد والجزر، ومعجزة ظهور بقعة رملية كانت منذ لحظة واحدة جزءا من قاع البحر. حينما شاهدها تقدم إليها بسرعة وصلى عليها، آملا أن يشهد له قاع البحر - فى يوم القيامة - أنه سجد عليه فأطال السجود. وأذكر أيضا أننا كنا رجالا ناضجين فى منتصف العمر، حينما دخل «مارينا» لأول مرة لزيارة أحد أصدقائه، لم يشعر بارتياح للمكان. وفجأة - مع غروب الشمس - زحفت فى سمائه سحابة كثيفة من حزن، وبدأ يشعر بالضيق والانقباض. ولم يكن لديه شك أن ما يشعر به هو نوع من الإدراك الفائق للحس لا يعرف سببه، فسارع بالانصراف. كان ممكنا أن يظل جاهلا للسبب لولا أنه تبين له - بالمصادفة البحتة - أن هذا المكان يقع بجوار مقابر جنود الحرب العالمية الثانية فى العلمين، المقهورين بلا إرادة، المُعذبين بلا هوادة، الذين ساقتهم المطامع الإمبراطورية ليكونوا وقود الحرب. طاقة نفسية هائلة لم تغادر المكان لكنه وحده الذى أحس بها. .............. وهكذا تنبع الرحمة عنده من معين الحب الصافى الصادق لكل مخلوقات الله. مواقف تتسع بمعنى الرحمة عن النحو الشائع المألوف. وهكذا تمضى حياته حتى اليوم: عبد من عباد الله الذين يمشون على الأرض هونا، فى عينيه صفاء وبساتين من الورود. واحد من القلة المختارة التى منحها الله القبول. يُدهشك بوداعته، وحقيقة أنه يعطيك وجهه كله، غنيا كنت أو فقيرا، صالحا أو فاسقا، لأنك، مهما كنت، فأنت - بالنسبة إليه - من عيال الله. [email protected]