ما أبعد جامعة اليوم عن الأمس علما وتعليما من ناحية، وروحا ودورا من ناحية ثانية. تبدو المسافة بين جامعة اليوم، التى بدأت الدراسة فيها قبل أيام، وجامعة الأمس أبعد بكثير من بضعة عقود، سواء كانت ثلاثة أو أربعة (جامعة أواخر الستينيات وطوال السبعينيات) أو كانت ستة أو سبعة (جامعة الثلاثينيات والأربعينيات). ولذلك لم تعد لأغنية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام عيسى (رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تانى) معنى فى جامعة اليوم. فلا التلامذة الآن هم من غُنيت لهم، ولا الجامعة. طلاب الجامعة اليوم منصرفون عن الهم العام، خوفاً أو عجزاً أو ضياعاً أو يأساً. والأجواء العامة فى جامعاتنا، كما فى المجتمع عموما، كئيبة خانقة. فلا حركة وطنية ديمقراطية تلهم طلاب اليوم بخلاف ما كان قبل ثورة 1952، ولا أمل فى المستقبل يحفزهم على محاولة بناء طليعة لمثل هذه الحركة على النحو، الذى سعى إليه أسلافهم بعد هزيمة 1967. فعندما تتفاعل الجامعة مع مجتمع حى، لا يمكن أن ينفصل طلابها عن قضاياه الملحة. وعندئذ تكون مناشدتهم الاضطلاع بدورهم مثمرة، كما حدث فى التاريخ القريب. فى مثل هذه الأيام من عام 1933، عاد الطلاب إلى الجامعة فيما كانت الحركة الديمقراطية الهادفة إلى إلغاء دستور 1930، الذى صنعه إسماعيل صدقى لمصادرة الإرادة الشعبية، تبحث عن شرارة جديدة. وكتب أحمد حسين، زعيم حزب «مصر الفتاة»، مقالة اجتمع فيها الرجاء واليأس تحت عنوان (يا شباب 1933 كن كشباب 1919). وندد فيها بشباب الجيل حينئذ وما اعتبره نقصاً فى شعوره بالكرامة والغيرة الوطنية (ترى ما الذى يمكن أن يقوله عن شباب الجيل الآن لو قدر له أن يُبعث حياً!). وجاءت تلك المقالة فى لحظة كان فيها بعض الطلاب مستعدين للعمل، بل كانوا قد بدأوا فعلاً فى بناء قاعدة قادرة على أن تحمل حركة وطنية ديمقراطية قوية ومؤثرة. ولم يمض عامان حتى كان الطلاب قد باتوا جاهزين لعمل كبير تجاوزوا به دور أسلافهم، الذين دعاهم أحمد حسين لأن يكونوا مثلهم. فكانت انتفاضتهم فى نوفمبر 1935 حاسمة فى إلغاء دستور 1930، الأمر الذى أدى إلى توافق المؤرخين كلهم تقريبا على تسميتها ثورة 1935. وتخليدا لشهداء هذه الثورة الأبرار، أطلقنا حين كنا طلابا فى جامعة القاهرة أسماء بعضهم على الأسر الطلابية، التى حملت لواء النضال من أجل الوطن والديمقراطية فى السبعينيات، مثل أسرة عبدالحكم الجراحى فى كلية الاقتصاد وأسرة عبدالمجيد مرسى فى كلية الآداب. حدث ذلك حين كانت الجامعة قلعة للدفاع عن الوطن والحرية ومنارة للعلم. وقتها كان الطلاب قادرين على صنع التاريخ وملء الفراغ السياسى. ومثلما أسقط طلاب الثلاثينيات أول دستور «شمولى» فى تاريخنا، قام طلاب السبعينيات بأكبر دور فى إنهاء عصر الحزب الواحد رسميا. لم يتصوروا وقتها أن الأحزاب المتعددة، التى نادوا بقيامها ستكون ديكوراً فى نظام شبه أحادى. ثم جاء زمن لا يتخيل طلابه أصلاً أن لهم قيمة فى الحياة، بل لا يعرفون شيئا عن القيم النبيلة، التى ناضل أسلافهم من أجلها. كم من طلاب اليوم يعرف شيئا عن ثورة 1935، أو انتفاضات 1972 و1973 و1975، أو المؤتمر الطلابى التاريخى، الذى أنذر فيه الرئيس أنور السادات بتوقيع لائحة 1976 الطلابية وإصدارها وإلا تحمل المسؤولية كاملة، فاضطر إلى التجاوب وهو يضمر الانقضاض على الجماعة وطلابها حين تتاح الفرصة التى واتته عام 1979. فكانت اللائحة التى فرضها فى ذلك العام نذير شؤم لم تعرف جامعاتنا حيوية بعده. ازداد عددها وتوسعت جغرافيا، ولكنها ضاقت بطلابها وعليهم وصارت تشبه قفصاً مغلقاً يقف على أبوابه حرس يسمى جامعياً. وقد جدد وزير التعليم العالى إصراره على بقاء هذا الحرس قبل أيام قليلة على نظر المحكمة الإدارية العليا طعن الحكومة فى حكم قضى بإلغائه وكان واجب النفاذ بمسودته. وهكذا، صار المشهد فى بداية كل عام جامعى محزنا ومخجلا، حيث الكليات مكدسة بأعداد من الطلاب تائهين بلا أمل، ومتسكعين فى واقع مؤلم لا يجدون فرصة للنجاح ولا حرية فى الاختيار إلا فيما قل أو ندر. فما أبعده هذا المشهد الكئيب عن جامعة الأمس غير البعيد حين كنا فى مثل هذه الأيام نجعل جدران كلياتنا تنطق بواسطة مجلات حائط تغطيها، ونبث فى كل مكان فى الجامعة أملا فى وطن حر. فهل هذا كثير على مصر والمصريين؟!