كلما سمعت تعبير «الاعتدال والممانعة»، رحت أبحث عن أقراص الأسبرين، تحسبا لصداع أعرف أنه سيهاجمنى بعد دقائق، فبلادى بفضل ذلك المسمى ستكون غائبة على الأرجح عن الترتيبات الجديدة التى تتم صياغتها فى المنطقة. وتعبير «الاعتدال والممانعة» هو أحد تجليات عبقرية العرب فى القيام بالمجان وعن طيب خاطر بتنفيذ أهداف الغير نيابة عنهم. فالفكرة كانت فى الأصل فخا نصبته عصابة المحافظين الجدد، ووقع فيه العرب بكامل إرادتهم. فمنذ 2006، سعت إدارة بوش لأن تحقق عبر الدبلوماسية ما فشلت فى تحقيقه عبر القوة الغاشمة، فاخترعت حكاية «محور الاعتدال ومحور الراديكالية»، ومحور «الراديكالية» هو نفسه «محور الشر»، ولكن اللغة تغيرت لتناسب استخدام الدبلوماسية بدلا من القوة العسكرية. وبعد أن كانت إدارة بوش فى سنواتها الأولى قد أوسعت دول الاعتدال انتقادا باسم الديمقراطية، صار هؤلاء بقدرة قادر «حلفاء معتدلين»، المطلوب منهم مساعدتها لعزل محور الراديكالية، محور الشر سابقا. وقد استخدمت عصابة بوش أدوات كثيرة فى هذا الصدد كان أهمها لعبة السنة والشيعة، لكن يبدو أن العرب «راديكاليين ومعتدلين» لم يكونوا بحاجة لأى من تلك الحيل، فسرعان ما ابتلعوا الطعم وراحوا ينفذون المخطط بأبرع مما توقعت إدارة بوش. وفى الأشهر الأخيرة، أدخل العرب محسنات لفظية فصار «الاعتدال والممانعة» هو الاسم المعتمد، وكأن مجرد استخدام ألفاظ عربية رصينة يجعل من خطة بوش القبيحة واقعا عربيا أصيلا! وقد انهمك الجميع وتباروا فى السقوط فى الفخ حتى إنهم لم ينتبهوا إلى أن إدارة أمريكية جديدة قد تسلمت الحكم، وأن لها رأيًا آخر، فهى تنوى الحوار مع الراديكاليين الممانعين الأشرار دون أن تقطع صلاتها بالحلفاء المعتدلين الأبرار! والإدارة الجديدة لاتزال بها قوى تتنافس على طريقة صنع العلاقة الجديدة مع سوريا وإيران، فأنصار إسرائيل يضغطون لدفع أمريكا دفعا لتبنى فكرة سوريا أولا، أى تأجيل القضية الفلسطينية والبدء بتسوية إسرائيلية - سورية، تكون صيغتها «الجولان مقابل تحالفات سوريا الإقليمية»، بما يحقق هدفا رئيسيا لإسرائيل وهو عزل حماس وحزب الله، والاستفراد بكل من سوريا وإيران فى التفاوض. ورغم أن ذلك التوجه من شأنه أن يخلق لأمريكا مشكلات لا نهاية لها، كونه يقوم على الفكرة نفسها التى ترفض الاعتراف بحركات مقاومة ذات وجود وشعبية على الأرض، ورغم أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت الإدارة ستتبنى ذلك التوجه أو غيره، فإن المؤكد أن أمريكا تنوى فى عهد أوباما اتباع استراتيجية جديدة للتعامل مع الأطراف المختلفة فى المنطقة، وهو الأمر الذى سوف يخلق بالضرورة ترتيبات إقليمية جديدة تتخطى تماما حكاية الاعتدال والممانعة إياها. وهى ترتيبات ستكون كل القوى الإقليمية الكبرى طرفا فيها. فتركيا مثلا على الخط منذ اللحظة الأولى سواء كوسيط بين سوريا وإسرائيل، أو بين إيران وأمريكا. باختصار، هناك ترتيبات جديدة فى طور التشكيل وتشارك فى صنعها إسرائيل وأمريكا وإيران وتركيا. ولا يجوز لمصر أن تغيب عن المشاركة فى تشكيل تلك الترتيبات تحت أى مسمى، خصوصا لو كان مرتبطا بصداع الاعتدال والممانعة الذى لا يكف عن اختراع مخاطر تحيق بمصر. فلا يوجد ما هو أخطر على أمننا القومى من أن تجد مصر نفسها إزاء أوضاع وترتيبات إقليمية لم تشارك فى صنعها.