مرت ذكرى أول وحدة عربية فى التاريخ الحديث بين الجمهوريتين المصرية والسورية التى تم الإعلان عنها فى 22 فبراير 1958، مروراً باهتاً شاحباً على المستويين الرسمى والشعبى. الشباب من هذا الجيل، لا يعرف عن الوحدة التى كانت بين وطنين شقيقين إلا القليل مما درسه فى كتاب التاريخ المدرسى. الإعلام المصرى الرسمى يتجاهل الحدث التاريخى كأنه شىء لم يكن، أسقطه من خريطة برامجه وأفلامه الوثائقية وتحليلاته السياسية، كأنه عورة يلزم سترها، ربما لأنه يتعامل مع الحدث بشكل اجتماعى، على اعتبار أنه زواج قصير انتهى بطلاق سريع، أو لأنه يقيسه بمقياس الأخطاء التى وقعت فيها قيادة ثورة 23 يوليو 1952، وأنه من الأفضل التستر على الأخطاء بدلاً من مناقشتها للاستفادة والتعلم من دروسها. فيما يخصنى، تستدعى تلك المناسبة فى نفسى ومخيلتى ذكريات رومانسية.. تشعرنى بحنين إلى أيام باكر طفولتى، حينما كان يشغل والدى رحمه الله منصب الملحق العسكرى المصرى بسوريا ولبنان. قبل إعلان الوحدة بعامين تقريباً، صحبنا والدى إلى مكان عمله الجديد فى دمشق، كان ذلك فى شهر سبتمبر من عام 1956، كنا نقيم ووالدتى وشقيقى الذى يكبرنى فى دمشق، بينما كان يتنقل والدى فى إقامته بين سوريا ولبنان. ورغم بكارة طفولتى فإننى كنت على شىء من الوعى بالأحداث، أذكر أن جميع محيطى الاجتماعى كان مرتبطاً بالجيش، فأبى يخرج إلى عمله مرتدياً بدلة عسكرية، وزوارنا الذين يحضرون إلى البيت يرتدون نفس الزىّ العسكرى، صور عبدالناصر على أغصان الشجر فى شوارع دمشق كانت تقدمه بهيئته العسكرية.. وكثير من الرجال فى شوارع دمشق كانوا على نفس الشاكلة. كان المذياع فى بيتنا يذيع أخباراً عن قيام عدوان ثلاثى، وكان أبى كثير السفر والتنقل بين سوريا ولبنان ومصر. كان يغيب عن البيت لأيام وأسابيع، وفى يوم من الأيام رأيته وعلى وجهه فرحة كبيرة وسمعته وهو يتبادل مع زملائه التهانى. بعدها شرحت لى أمى أن مصر قد انتصرت على أقوى ثلاث دول فى العالم. مازلت أسمع حتى الآن أصوات الهتافات التى كان يطلقها الشعب السورى عند زيارة عبدالناصر لدمشق، وتجمهرهم أمام قصر الضيافة الذى يقيم فيه لمسافة عدة كيلو مترات، لتتجاوز شرفة بيتنا التى كانت تطل على شارع الشرفاء بمنطقة برمانه. ذكرياتى عن تلك الفترة من عمرى ومن تاريخ وطنى الأكبر، كانت مرتبطة بالأفراح الشعبية والانتصارات العسكرية والسياسية، كان المواطن المصرى والعربى معتزاً بنفسه بعد أن انتزع حرية أوطانه، وطرد الاستعمار ونال استقلاله. بسرعة انقضت السنون وكان علينا الاستعداد للعودة إلى مصر فى صيف عام 1959 ليتسلم والدى عمله الجديد فى القاهرة. بعدها بأشهر قليلة رأيت مشهداً لن أنساه طوال حياتى، رأيت أبى يبكى لأول مرة. كان الانقلاب العسكرى السورى على الوحدة قد تم فى صورة مفاجئة، مما يعنى نهاية «حلم» الوحدة العربية الشاملة. بعدما مرت السنون وكبرت فى العمر والتجربة الحياتية، وبعدما أصبح لى ولشقيقى أبناء وبنات يسألون جدهم عن تاريخ وطنهم، قرر والدى أن يتحمل وحده عبء كتابة ما شهده وشارك فيه من أحداث سياسية وعسكرية فى مصر بداية من عام 1936 إلى أحداث سبتمبر 1981. نشرت الهيئة المصرية العامة للكتاب هذه المذكرات فى عدة طبعات، كانت أولاها عام 2001 تحت عنوان: «عبدالمحسن أبوالنور يروى الحقيقة عن ثورة 23 يوليو»، وكان قد أهدى المذكرات إلى شباب مصر الحائر فى بحثه عن الحقيقة فى مرحلة فاصلة من تاريخه المعاصر. aishaaboulnour.com