مضت الليلة كالحلم أو هى كالحلم ذاته الذى تحقق أخيراً، وقبل الفجر وقبل أول ضوء للصباح سار الجميع صفوفاً متراصة يتحركون فى صمت ومهابة إلى حيث المقصد، لم تكن صفحة النيل قد تلونت بعد باللون الأزرق، واحتفظت الهضاب المحيطة المسنونة كقمم الأهرامات المدببة بلون الليل، بصيص من ضوء المصابيح يرشد الجميع إلى باب المعبد الكبير، ثلاثة آلاف ومئتان من السنين هى عمره، عمره من عمر الزمان الموغل فى القدم، ودلفت إلى بابه أرجو الدخول، سبقتنى إليه جموع اتخذت مكانها فى هدوء عبر صالة الأعمدة الكبرى، ستون متراً هى المسافة إلى نهاية الممر، ستون متراً وأنا أسير فى خيلاء وزهو ألفت النظر إلى كونى مصرية، حفيدة هذا الفرعون العظيم وشعبه الذى شيد بعبقرية هذا الصرح، طالعتنى وجوه أجنبية كثيرة أصحابها جاءوا من آخر الدنيا ليشهدوا لحظة لا تأتى إلا هنا، لحظة أن تتسرب أشعة شمس الصباح إلى قدس الأقداس لتضىء ثلاثة من تماثيل أربعة منحوتة فى داخله، يومان فقط فى السنة تتركز الأشعة وتسير دون أن تضل الطريق عبر آلاف السنين، إلى حيث يوجد سيد البنائين الملك الأعظم حامى مصر ومحبوب رع وقاهر البلاد الأجنبية وعظيم الانتصارات ومشيد الآثار النافعة لأبيه أمّون، الملك رمسيس الثانى، إلى جانبه يجلس رع حور آختى معبود هليوبوليس وأمون معبود طيبة، وإلى يساره التمثال الرابع لبتاح معبود منف ورب العالم السفلى ولأنه راعى العالم السفلى أى عالم العتمة فإن أشعة الشمس تضىء التماثيل الثلاثة دونه، ذلك أنه يجب أن يبقى فى ظلام إلى الأبد. وليس من سمع كمن شاهد وليس من قرأ كمن رأى، لحظة أن تنير أضواء الفجر الخافتة أرجاء المعبد وتنحبس الأنفاس انتظاراً لشعاع الشمس، يدخل من باب صغير على واجهة المعبد و يسير ستين متراً إلى داخله ويضىء التماثيل الثلاثة فقط، وعندما يبدأ فى الانسحاب يقوى نوره على تمثال رمسيس الثانى و يتوقف لدقائق، وقتها يبدو وجه الملك مشرقاً بأشعة الشمس المتعامدة عليه، عشرون دقيقة ثم يمضى شعاع شمس الحادى والعشرين من فبراير ليعود من جديد مرة ثانية فقط فى الحادى والعشرين من أكتوبر، عبقرية تَثبت وتتأكد وتتجسد كل عام، لا صلة لها بميلاد وتتويج الملك رمسيس الثانى، وقد لا يكون لها صلة ببداية موسم الزراعة وموسم الحصاد، لكنها ظاهرة فلكية فريدة التقطها علماء علم الفلك فى مصر القديمة، والتقطها عباقرة التصميم البناء والنحت والهندسة والفن وتجسدت فى هذا الإنجاز الذى مازال يبهر العالم، معبد أبوسمبل الكبير أعظم معابد النوبة، تم نحته فى جبل مصمت فأصبح يحوى مدخلاً وواجهة ترتفع 33 متراً وبعرض 38 متراً وبعمق 60 متراً فى الصخر له صالة أعمدة كبرى وصالة أعمدة مستعرضة وحجرات جانبية لخدمة طقوس المعبد ثم قاعة قدس الأقداس التى لا يدخلها إلا كبار الكهنة والفرعون، نقوش الجدران تسجل تاريخ رمسيس الثانى ومعاركه الحربية وانتصاراته ومعاهداته التاريخية وتصف قوته وشجاعته وأيضاً حكاية حبه لزوجته جميلة الجميلات نفرتارى التى أقام لها معبداً إلى جوار معبده، وبنى لها مقبرة فى وادى الملكات هى الأجمل والأروع بين مقابره، كانت نفرتارى بالنسبة له هى سيدة الصعيد ودلتاه، وسيدة كل الأراضى، وعظيمة المديح وجميلة المحيا وربة الفتنة وحلوة الحب، وعلى جدران معبد نفرتارى فى أبوسمبل أقام لها الملك رمسيس الثانى تماثيل ضخمة تجاور وتساوى حجم تماثيله معها على الواجهة وسجل عليها نصوصاً هيروغليفية تقول : بنى رمسيس معبداً نحت فى الجبل ليبقى راسخاً إلى الأبد من أجل الملكة نفرتارى التى تشرق الشمس من أجلها. مدينة أبو سمبل السياحية ومعبدها الشهير لا يقضى به السائحون إلا ساعات معدودة، جزء من اليوم فقط، وغالباً لا مبيت ولا ليالى سياحية ولا أسواق لمنتجات تراثية ولا مطاعم ولا عروض لفرق شعبية، جفاف فى مقومات المدينة السياحية والترويجية بادى للعيان ويلزم تداركه فمن يملك هذا الكنز الأثرى فى رقعة بالغة الجمال والروعة تحيط بها مياه نهر النيل فى عنفوانه عند بحيرة السد وتسطع بها الشمس طوال أيام السنة مع هدوء ووداعة وسكون تتسمع خلاله فقط لزقزقة العصافير وحفيف أوراق الشجر وتحيط بك فى مودة وجوه سمراء جميلة كل ذلك وساعات فقط يقضيها السائحون بها لا تسمح برواج أو شراء أو تنمية يستحقها أهلها ويطلبونها بإلحاح. [email protected]