ما إن يتدبر المرء رحلة المصرى فى التاريخ حتى يكاد يصل إلى يقين تام بأن معاناته الأليمة لم تكن فى يوم من الأيام وليدة ظرفٍ تاريخى طارئ؛ وإنما هى مجرد سلسلة متواصلة من تسلط ثالوث الكبت والقهر والحرمان. وقد خلصت دراسة حديثة قام بها كل من بارى كيمب وجيروم روز فى منطقة تل العمارنة، عاصمة مصر القديمة إبان عهد إخناتون، إلى أن غالبية المصريين القدماء قد عانوا من فقر الدم وكسور العظام وتوقف النمو، فضلا عن ارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال، وذلك بسبب ضعف التغذية والعمل تحت وطأة ظروف قاسية. وقد أكد الباحثون المذكورون أن مقابر المصريين القدماء العاديين لم تحظ بأدنى اهتمام، وفيما تُظهر الرسوم المنحوتة على قبور النبلاء وفرة فى القرابين، يحكى ما تبقى من رفات الأشخاص العاديين واقعا مختلفا تماما، حيث تُظهر نتائج التنقيب العديد من الإصابات فى العمود الفقرى بين مراهقين من المرجح أنها نجمت عن حوادث أثناء أشغال البناء. ويبدو أن الأمر لا يختلف الآن كثيرا عما سبق؛ فعلى مدى أكثر من قرن ونصف القرن من عمر الدولة الحديثة فى مصر بنى الشعب المصرى خلالها القناطر والسدود، وشق العديد من الترع والقنوات، حرث وعرق وغرس وروى، لكنه أيضا زرع من دون أن يحصد، وجمع من دون أن يملك، وظل يطوى بطنه جوعا فيما يشبع غيره، يرتشف كأس المهانة والذلة والخضوع فيما يرتوى غيره بثمرة كدّه وجهده، يزرع الذهب الأبيض لينام فى العراء! أو فى المقابر حيّا مع الأموات، أو ميْتا مع الأحياء! (هناك أكثر من مليون ونصف المليون يقطنون المقابر فى القاهرة وحدها!). وهو فى كل أولئك، ظل جائعا بائسا عطِشا، تلهب ظهره سياط جلابى الضرائب وكرابيج السخرة. ماذا قدمت مصر للمصريين الذين امتزجت دماؤهم العذبة مع الملح الأجاج فى حفر القنال، ليبيعها الخديو فيما بعد؟ وماذا قدمت مصر للمصريين الذين وقفوا مع عرابي، وخلف سعد، واحتضنوا الثورة، وانتصروا فى حرب أكتوبر، وبنوا آلاف المصانع والمعاهد، ويمضى التاريخ فى سرد حكايا الوجع مؤكدا أنه فى فترات متباعدة هبّ المصريون فى وجه الظلم وقد استفزهم أن وعد الحرب قد جرى إخلافه، وأن وعد النصر قد تم العبث به. وفى الواقع لا أحد يعلم بالضبط إلى أين تمضى مصر؟ بعدما أصبحت الكراسى أهم من البلد، والحاضر أقوى من المستقبل، وبعد أن تصدرت جماعات المصالح المشهد الإعلامى والسياسي، وتم الفتك بقوى المعارضة، الهشة أساسا، واحدة تلو الأخرى، مع المضى قدما فى ملف الخلافة والتوريث!. لقد ظل الفلاح المعاصر يكدح طوال عقود من الزمان من أجل أن يُتِمّ أحد أبنائه تعليمه، فيتصدر المشهد الاجتماعى فى القرية أو المدينة، وربما فى مصر كلها، أو هكذا خُيّل إليه مع الأسف الشديد، فإذا به يجد فلذة كبده يتصدر المشهد الزراعى ويقف إلى جانبه فى الحقل بعد أن صار عاطلا عن كل شيء..إلا الفلاحة!. وفى السياق ذاته، عادة ما نصادف حكايا الوجع والحرمان تمتد بين جوانب المطحونين وتلازم المهمشين، فلا تفارقهم ليل نهار. وقد اضطر أحد الآباء ذات مرة إلى أن يبيع سقف بيته ليُتِمَّ أبناؤهُ تعليمهم فبقى البيت بلا سقف، كما بقى الأبناء إلى جانبه فى البيت! لكن اللافت للنظر إنما هو صبر المصريين الذى يبدو أنه بلا حدود؛ فبدلا من أن يقاوم المصريون المستبدين لم يجدوا أمامهم من فرصة سوى أن يلوذوا بأضرحة القديسين والأولياء الصالحين يسفكون على مذابحهم عبرات من أوجاعهم التى لا تنتهى بعدما فقدوا العون والنصير. وهكذا تبلورت عبر التاريخ ثقافة الخوف من المجهول فى صورة جهاز إعلامى شعبى يجابه بطش السلطة وجبروتها بعدما ظل المصريون طويلا رهنا لحلم لم يتحقق قط، وكأنهم، دائما وأبدا، فى انتظار ما لا يجىء!.