(مهداة إلى صاحب «أنا الملك جئت» بهاء طاهر فى عيد ميلاده الخامس والسبعين) لم يسعدني الحظ أن أطالع محيّا ملكيتنا نفرتيتي البهي سوى مرة واحدة، لا أنساها ما حييت. كان ذلك فى برلين منذ عشر سنوات، عام 2000، حين كانت الملكة تقطن «المتحف المصري» فى شارلوتنبورج، أحد أحياء العاصمة الألمانية، قبل أن تنتقل مؤخرا إلى مستقرها الحالي، وهو «المتحف الجديد»Neues Museum فى «جزيرة المتاحف» بقلب برلين، والذي انتقل معها إليه كل مقتنيات «المتحف المصري» السابق من التحف الأثرية والبرديات. والمستقر الحالي هو في الواقع المقر الأصلي للملكة الذي بني في منتصف القرن التاسع عشر، وأصابه ضرر شديد خلال الحرب العالمية الثانية وبقى غير مستعمل حتى أعادت ألمانيا بناءه على نحو ما كان فى الأصل ضمن برنامج ضخم ومستمر لإعادة برلين إلى مجدها المعماري الذى كانت عليه قبل دمار الحرب، وقد أعيد افتتاح المتحف رسميا قبل أربعة أشهر لا غير، وعلى التحديد فى 17 أكتوبر 2009. أذكر أنى كنت فى برلين فى مطلع شتاء سنة 2000 للمشاركة فى مؤتمر أكاديمي من تنظيم «الجمعية الدولية لدراسات الشرق الأوسط». انعقد المؤتمر برعاية قسم دراسات الشرق الأوسط فى «الجامعة الحرة» فى برلين، وكان موضوعه المحوري هو «الحوار بين الحضارات». وهو عنوان انتظمت تحته مقاربات وبحوث وورشات عمل عديدة دامت أربعة أيام وشارك فيها نخبة كبيرة من علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والمختصين فى شئون الشرق الأوسط، الآتين من جامعات ومؤسسات عربية وأوروبية وأمريكية. ولا شك أن عنوان المؤتمر الحوار بين الحضارات كان قد اختير بعناية وقتها ليكون بمثابة رد عقلاني على الرؤية الدموية الكابوسية التي أطلقها أستاذ جامعة «هارفارد» الأمريكي، صمويل هنتينغتون، فى مقالته سيئة السمعة «صدام الحضارات» المنشورة سنة 1997، والتي كانت أصداؤها في العالم الأكاديمي وما وراءه مازالت قوية التردد آنذاك، فجاء ذلك المنتدى ليستبدل مفهوم الصدام بمفهوم اللقاء والحوار. كانت زيارتي الأولى لبرلين وكنت أعلم أن من بين متاحفها الكثيرة متحف مخصص للآثار المصرية القديمة، وأن درة مقتنيات هذا المتحف هى تمثال نفرتيتي النصفي الشهير، ملكة مصر، وزوجة الملك إخناتون من الأسرة الثامنة عشرة فى القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وكنت شأني شأن الملايين غيري قد رأيت صور هذا الرأس البديع فى صفحات الكتب والمجلات وعلى شاشة التليفزيون مرة بعد مرة فيما يذاع عن مصر وآثارها من برامج، فهو يعد بحق أشهر قطعة آثار مصرية بين ربوع الأرض لا ينافسه فى ذيوع الصيت سوى القناع الذهبي لتوت عنخ آمون، والتى هى منافسة أسرية على نحو من الأنحاء، فبعض الفروض التاريخية تقول إن توت عنخ آمون كان ابنا للملك اخناتون من زوجته الملكة نفرتيتى. لم يكن ثمة مفر إذن من أن أنسل ذات صباح من قاعات المؤتمر، غير آبه بما يفوتني من أبحاث تلقى أو مناقشات تدار. كان من المستحيل أن أكون فى برلين، فلا أذهب أنا المصري لأمثل بين يدي مليكتى التي دان العالم لبهائها منذ عثر على التمثال، مطمورا فى ورشة نحات القصر الملكي، تحتمس، الذى صنعه فى نحو عام 1345 قبل الميلاد حسب التقديرات التاريخية، والذي يعتقد أنه كان أنموذجا نحته المثّال العظيم ليستنسخه تلامذته. وكان العثور على التمثال ضمن كشوف تل العمارنة التى جرت فى سنة 1912 على يد فريق ألماني يقوده عالم الآثار لودفيج بورخارت Ludwig Borchardt (1863 1938)، الذى تخصص فى المصريات، وأتى إلى مصر فى عام 1895 حيث اشترك مع عالم المصريات الفرنسى الشهير جاستون ماسبيرو (1846 1916) Gaston Maspero، رئيس هيئة الآثار المصرية آنئذ والذى يحمل اسمه حتى اليوم مبنى الإذاعة والتليفزيون والشارع القائم فيه بالقاهرة اشترك معه فى وضع «الكتالوج العام لمقتنيات المتحف المصرى»، كما أسس «معهد الآثار الألمانى فى مصر» فى عام 1907 وبقى مديرا له حتى عام 1928. تحيط الشكوك بكيفية خروج التمثال من مصر، وهل كان مشروعا أم لا، ومنها أن بورخارت لم يكشف عن هوية صاحبة التمثال فى الوثيقة التى خرج بموجبها، بل أشار فقط إلى كونه تمثالا من الجص المطلي لأميرة مصرية، وأنه قد يكون صنع ذلك بغرض التقليل من شأنه وتسهيل خروجه، إلا أنه لا شىء مقطوع به. ولم يكد الستار يزاح عن التمثال لأول مرة فى برلين فى سنة 1924، حتى ابتدأت المطالبات المصرية باستعادته منذ عام 1925، وهى مطالبات لها تاريخ طويل موثق، ومستمرة بالطبع حتى اليوم، غير أن كل الحكومات الألمانية استماتت فى التمسك بالتمثال، بما فيها هتلر الذى عارض شخصيا وزيره هرمان غورنغ الذى يقال إنه فكر فى إعادة التمثال كلفتة آنئذ تجاه ملك مصر. دخلت المتحف يكتنفنى شوق وهيبة. توقفت عند الكثير من المعروضات، والكثير منها من مكتشفات «تل العمارنة» مدينة نفرتيتى وإخناتون، فقد كان الألمان أصحاب امتياز التنقيب هناك. وكنت أشعر أن كل خطوة أخطوها تقربني من الحضرة الملكية، من سدرة المنتهى، من مطالعة وجه المعبودة ذى البهاء. وحين وصلت إلى الغرفة السوداء فى الطرف الأقصى من المتحف كنت أكاد أسمع وجيف قلبى. أمامها وقفت محبوس الأنفاس. وقفت فى العتمة التى لا يبددها إلا نورها. وقفت يكاد بصري يغشى أمام ذلك الألق المشع من وراء الزمان. وقفت أنا البشر الفاني لا أدرى كيف يكون الوقوف فى حضرة الأبد، ولا كيف تكون التحية. وقفت خاشعا مبتهلا، وحولي خاشعون مبتهلون من كل جنس وملة، لا يتحدثون إن تحدثوا إلا همسا. بعد أن شاهدتها لم أعد أريد أن أرى شيئا آخر، فمعاني الأشياء جميعا تتقلص أمامها، تنزلق من على الواعية دون أثر. خرجت من المتحف أسير كما لو كنت طافيا على الهواء، غير شاعر للأرض بقوة جذب، وفى ذهنى تساؤل: أى حوار بين الحضارات هو أجدى من هذا الحوار الصامت بين جمال الفن المعبود وبين أجيال الشاخصين إليه ببصر خاشع من الألمان ومن سائر بلاد الشرق والغرب، فى متحف الفن المصرى فى قلب الحاضرة الغربية، برلين؟ ألا بالله عليكم لا تقلقوا راحة الملكة! دعوها حيث هي فى سلام! إن مليكتنا لم تسرق، أو تخطف، أو تهرب. تعالت جلالتها أن يصيبها شىء من ذلك. إنما الملكة قد غزت وفتحت، وسلبت القلوب والألباب. إنما الملكة قد بسطت سلطانها على القاصي والداني، والمقيم والعابر فى قلب أوروبا، حيث لا يمر يوم إلا ويمثل بين يديها المئات، وأحيانا الآلاف، من طالبى الحضرة، خاشعين متعبدين، مقدمين فروض الولاء والطاعة. إن مليكتنا عاشت فترة عاصفة من تاريخ مصر وانتهت نهاية مأساوية نكاد نتلهى عنها إذ تغشى أبصارنا أمام جمالها الساطع. فهى شاركت زوجها، أخناتون، حكم امبراطورية مصرية مترامية الأطراف قبل أن يضيعها الملك بتعصبه الدينى واضطهاده لمخالفيه فى العقيدة، تلك المأساة التى صورها أصدق تصوير واحد من رعايا الملكة فى العصر الحديث، اسمه نجيب محفوظ، فى روايته «العائش فى الحقيقة» (1985). وفى نحو السنة الرابعة عشرة من حكم أخناتون تختفى الملكة على صورة غامضة من سجلات التاريخ، ويبقى سر اختفائها وكيفية مغادرتها للحياة وموضع دفنها يبقى مجالا للتكهن، فى انتظار المزيد من الكشوف التاريخية والأثرية، وإن لم يمنع هذا واحدا آخر من رعايا الملكة فى العصر الحالى، اسمه بهاء طاهر، أن يدلى بدلوه فى الفروض والحلول فى قصته الرمزية الرائعة، «أنا الملك جئت»، التى يعصرن فيها حكاية نفرتيتى واخناتون، رابطا الماضى بالحاضر، والشرق بالغرب على نحو فريد. ها هى الملكة بعد ثلاثة آلاف سنة ونيف تعود من اختفائها الغاشم، وتصلح ما أفسده زوجها، وتعيد لمصر مجدها، وتمد سلطانها إلى ربوع قصية، مقيمة عرشها فى الديار الأوروبية، رافعة علم مصر خفاقا، مزهوا فى كل يوم. ألا بالله عليكم دعوا الملكة معززة مكرمة لدى من تفانوا فى خدمتها وحرق البخور فى محرابها ما يقرب من مائة عام. لقد خاضوا حربا عالمية دامت سنوات عديدة حتى لم يكد يبقى فى ديارهم بناء قائم من كثافة القصف الجوى والأرضى، ولكنهم حموها وافتدوها، وتنقلوا بها بعد الحرب من قصر إلى قصر، حتى انتهت مؤخرا لمقامها الأصلي المفضل فى «المتحف الجديد»، بعد أن أعادوا تشييده على نحو ما كانت تقطن فيه قبل دمار الحرب. دعوا الملكة فى برلين شاهدا على مجد مصر بين العالمين. إن من الملكات والملوك من يتجاوز ملكه حدود بلاده، ويخضع لهيمنته الأغراب قبل الأوطان. ومليكتنا كذلك. ليس لجمالها وطن، فهى مثال الجمال المعبود، وفكرته المجردة. الأرض كلها لها وطن. حيثما حلّت انحنت لها الجباه، وسعت لها أفواج الحجيج. دعوا المليكة فى برلين، قِبلة لكل من يصلّى للجمال، وحاثّا للساعين أن يواصلوا سعيهم إلى مصر، الدار الأولى للمليكة، حيث نشأت وعاشت وتملّكت ثم اختفت، إلى أن شاءت أن تعود فى القرن العشرين فتسطع من جديد، ناشرة ضوءها فى الشرق والغرب، غير مفرّقة.