وقت شديد الإمتاع قضيته فى قراءة «بعد أن يخرج الأمير للصيد» متتالية قصصية للكاتب الشاب محمد عبدالنبى (ميريت 2008). والكتاب هو بالفعل متتالية قصصية حيث ينفتح باب الحكايات بعد أن يمر القارئ بعتبة النص، الحلاج إذ يقول «كفى حزنا أنى أناديك دائبا/ كأنى غريب أو كأنك غائب». الغربة أو الغياب أو كلاهما يمثلان مفاتيح المتتالية التى تبدأ ب «عيل تائه»: بطل الحكايات يتوقف أمام استديو للتصوير الفوتوغرافى والصور التى تصافح فؤاد تدفعه للتساؤل «يعنى ألا مفر من الزينة الرخيصة والمساحيق؟ من أجل إخفاء التجاعيد أو البثور وتأكيد الملامح. أو حتى رسمها من جديد؟ الحيل القديمة الخاسرة نفسها». ربما ينخدع القارئ من تلك السطور الأولى للنص ظنا منه أن عالم الحكايات معتم كئيب يدور حول الخسارة والخداع. لكن تلك ليست إلا أحد «الألاعيب الماكرة» التى يمارسها محمد عبدالنبى إذ يستدرج قارئه إلى مجموعة نصوص ناعمة ومؤلمة فى ذات الوقت. نصوص تطرح الأسئلة الوجودية الأولى عن غربة الإنسان فى هذا العالم. ورغم أن القصة الأولى تبدأ بدخول البطل إلى محل التصوير، زمن الأبيض والأسود، كأنه هارب من عالم الصخب والألوان والتوهة فى الخارج، إلا أنها تأخذنا للوراء فى تقنية متكررة فى كل الحكايات. تأخذنا الحكاية إلى لحظات التوهة والضياع لفؤاد طفلا صغيرا مع الأب مرة ومع الأم مرة. ولا ينسى أن يعرفنا فؤاد على نفسه «تظنون طبعا أننى عيل تائه، أبدا، هذا سوء تفاهم بسيط. أنا أحب التسكع وحسب. أمشى هكذا بلا هدف. لا تنظروا إليّ هكذا فلن تخيفوننى بالمرة. اسمعوا تعالوا نتعارف أولا. اسمى فؤاد. فؤاد الأمير. لست أميرا بالمعنى الحرفى للكلمة. لكنه لقب أمنحه لنفسى الآن فقط. ربما لأتميز به عن كل الأفئدة الأخرى». وفى حكايات الأمير يمتزج الواقعى بالمتخيل الشعبى فالبنتان التوأمتان، صاحبتا المدرسة اللتان كان يزعجه تطابقهما القادر دوما على خداعه، يدفعانه للتساؤل حول ما يسمع عن تحولهما إلى قطتين سوداوين فى الليل. ويعتقد الأمير أن تلك الأرواح ستظل تطارده فى منامه «بهيئات بشرية وحيوانية غامضة وغير معقولة. تخمش بمخالبها لحم وجهك وعنقك بلا هوادة». ويستمر المزج بين الواقعى والمتخيل فى «ضباب كثيف فى الغرف المغلقة» حيث تمطر السماء فى طريق فؤاد إلى بيت أمه للحاق بإفطار رمضان. ويدفع الضباب الكثيف البطل إلى التساؤل عن ماهية الحب، فالعلاقات العابرة ربما تكون مجرد ضباب كثيف لابد أن ينحل، والحب هو هذا الشيء الغامض الذى يتكلمون عنه باستمرار. لكن فؤاد/ الأمير كان قد «خص نفسه بالسر الساذج: لذة الطلب مع البعد». هل لأن الأمير يقرن بين الحب والفناء فى المحبوب فيظل يشتهى الحب لكنه يخاف فقدان فردانيته؟ فهو يقول فى موقع آخر من نفس الحكاية «الحسُ بالمحبوب مع النأى هو وجوده كاملا، دون شبهة فقدان واحدة». ولأن الأمير يقف فى هذا الموقع من الحب: الاشتهاء والخوف، تسرى فى عروق الحكايات نبرة حسية كثيفة تترجم فى مواقع كثيرة بلغة الطبيعة الغامضة الجامحة فى نفس الآن. ففى «نداء كأنه الموج» يتساءل القارئ هل هو نداء المحبة أم نداء الجسد أم نداء الفن وكلها نداءات مراوغة يعجز الأمير عن تلبيتها وإن كان الأمر فى الواقع يشكل عرضا «قاسى الجمال» كما يخبرنا. وهناك «مهرة الشهوة» أيضا، آخر حكايات الأمير: «مهرة مفلتة دون لجام أو سائس. حرة وعارية وضائعة فى الليل». متتالية محمد عبدالنبى عن الغربة أو الغياب هى غزل شديد الرهافة. تقرؤها فترى نسيجا من الدانتيلا المغزولة برقة وعذوبة والكاشفة للكيان الإنسانى المعذّب بالسؤال الذى يقف خلفها.