كان الكاتب الكبير يوسف إدريس ضيفا على الشاعر فاروق شوشة فى إحدى حلقات برنامجه الشهير «أمسية ثقافية»، عندما سأله شوشة عن أهمية علامات الترقيم فى الكتابة ؟ فأجاب يوسف أن هذا الموضوع له شقان، الأول عام وينطبق على جميع الكتاب، وهو وجوب الاهتمام بهذه العلامات القادرة على تغيير المعنى تماما إذا تم إغفالها، والشق الثانى خاص إلى حد ما، ويتميز به بعض المبدعين، وهو القدرة على توجيه أذن المتلقى إلى النغمة الموسيقية التى تحملها الجمل الأدبية، والتى عادة ما تكون ذات سجع معين فى أذن صاحبها أثناء صياغتها على الورق، ويتمنى لو أنها استُقبلت بذات النغمة، فيستطيع إيقاف القارئ هنا لبرهة، أو جعله يسترسل فى جملة طويلة بهدف ما، ثم يريحه لحظة، قبل استكمال القراءة، أو ينبهه مثلا إلى لحظة فارقة فى العمل. من يدركون هذا بالطبع ليسوا كثيرين، لأنها مسألة تعتمد على حس الكاتب، واستقباله للفنون المختلفة، بأكثر مما تعتمد على شكل نظرى ما. الكاتب أحمد زغلول الشيطى حقق هذه الحالة فى مجموعته الأخيرة «ضوء شفاف ينتشر بخفة»، والصادرة مؤخرا عن دار ميريت، فنجده يستخدم الفواصل والنقاط والتشكيل وخلافه، بتمكن حِرفى كبير، يستخدمها فى جمل قصيرة، تدعم تكثيف الحدث فى لحظة معينة، عندما يلتقطها الكاتب، يكون قد وصل إلى ما يرمى إليه، وهى من أهم شروط إنجاح القصة القصيرة تحديدا، والتى يعتبر البعض أنها تمر بأزمة بسبب طغيان المشهد الروائى على الساحة، متناسين أن المشكلة الحقيقية ترجع إلى ندرة الأعمال القصصية الجيدة، وأن معاناة القارئ مع القصة، والتى من ضمنها عدم استغراقه فى الأحداث، نظرا لانتهاء العمل سريعا قبل الاندماج معه عكس الرواية التى تتيح معايشة أبطالها وتطور أحداثها، هذه المعاناة لا توجد مع القصة القصيرة الحقيقية، والتى بنى عظماء مجدهم فقط من خلال سردها، ويكفى هنا أن نتذكر عطاء يوسف إدريس ومحمد المخزنجى وخيرى شلبى وسعيد الكفراوى وإبراهيم أصلان وغيرهم. ورغم أن العمل الأشهر لدى أحمد زغلول الشيطى كان رواية قصيرة بعنوان «ورود سامة لصقر»، نشرت طبعتها الأولى ضمن العدد 54 من مجلة «أدب ونقد» إلا أنه مهموم بمشكلة القصة القصيرة، تلك المشكلة التى كان لها حضورا قويا فى الندوة التى أقامتها ميريت لمناقشة مجموعته عند صدورها، ساعتها تحدث حمدى أبوجليل عن جرأة الشيطى فى تقديم كتابه على أنه «قصص قصيرة» رغم أنه يحتمل التعريف بأكثر من شكل، كالمتتالية القصصية، والتى ترتبط نصوصها بخيط واحد، لم يخش الكاتب تقديم عمله على أنه قصص فى وقت يتأثر فيه النقاد والقراء بالمسمى الأدبى للسرد، مما قد يظلم العمل على نحو أو آخر. خمس وسبعون لقطة، تضمها المجموعة بين قصص قصيرة، وقصيرة جدا، تسير بين طريقين، أحدهما فانتازى جدا مثل قصة «ثلاث نمور حزينة»، والآخر من واقع التجربة الذاتية للكاتب مثل القصة التى تليها مباشرة «راعى الحمام»، وربما يكون هذا الترتيب أيضا مقصود، الأولى لا تزيد عن المائتى كلمة، تحكى عن شخص تزوره ثلاثة نمور يبدو عليها الحزن، وهو لا يندهش من زيارتها، بل يستضيفها شأنها شأن أى زائر، يقدم لها الشاي، واجب الضيافة، تشربه، ثم تهم بالقيام، وفيها تتجلى وظيفة علامات الترقيم التى ذكرناها، يقول «ثلاثة نمور حزينة دخلت شقتى وراحت تتجول ببطء ورؤوسها منكسة.. هذه هى مقعدة الحمام البيضاء.. هذا هو المطبخ والأوانى وبقايا الطعام. وهذا هو السرير، وتلك الملابس ملقاة فى أنحاء الحجرة». أما الثانية، «راعى الحمام»، فنجد أن الكاتب استرسل فيها قليلا، ولكن استرساله، لم يؤثر على تقنية الحذف، فعلى سبيل المثال، لم يقل أنه يتحدث عن بلدته «دمياط»، ولكنك تعرف هذا فور أن يبدأ فى وصف المكان، بطل القصة، يقول» آلاف الدكاكين، نجارون، استرجية، منجدون، أويمجية، حرفيو خيزران، صانعو كرينه، وشريط، بائعو عبك وخيش، مستورد وأبلاكاج، مخازن أخشاب ضخمة، مناشير شق وتقطيع، رابوب، حلايا، منقار، مدينة غارقة فى النشارة». وسوف نلاحظ أن أحمد مشغول بالحفر فى الجدار الحارس للغة، واختراق دفاعاتها طوال الوقت، حتى فى الفانتازيا، نجده يستخدم الكلمة الدقيقة، التى لا تذهب بالقارئ إلى غير معناها، مما يجعلك ترى الأحداث، وكأنها مشهد درامي، أو لوحة تشكيلية.. تتجلى هذه الحالة فى أولى قصص المجموعة، «قمر فوق الميناء»، يصف الجو العام للحدث، «قمر مغبش فوق الميناء، أضواء مبهرة خلف الأسوار، فوق الأرصفة، رؤوس الأوناش العملاقة عاكفة فوق الصناديق الحديدية الملونة. لا يبدو من بعيد غير مقدمة السفينة، تخايلنا أضواء الميناء، ونحن داخل الميكروباص المنطلق... تومض الأضواء فى الخلاء الرملي، تبدو خيام البدو، وبهائمهم وأغنامهم. تتخلل الأضواء غابة النخيل الكثيفة». وكأن السنوات التى قضاها الشيطى بعيدا عن الكتابة، لم تضع هباء، ولم تؤثر على مواكبته للتطور اللغوي، واختيار كلماته، ومصطلحاته، ووقفاته، مما جعل قراءته المسموعة لبعض القصص أثناء مناقشتها سهلة الاستقبال. هناك أيضا بعض اللقطات، نشعر وكأنها بذرة لعمل أكبر، لم يكتمل، ففى قصة «صباح»، يقول، «النافذةُ مفتوحةٌ على الشَارعِ، تطلُ على ضوءِ شمسٍ صباحية ربيعية، ضوءٌ يُذكّر أن الحياة حلوة، وأن صباحات كهذه لا تدوم»، وتنتهى القصة، نفس الحالة صدّرها لنا فى قصة «بائعة البيض»، تلك السيدة التى كانت تجلس فوق الكوبري، حاملة طفلها الرضيع، وتبكى لأن بيضها وقع على الأرض وتكسر بأكمله، وتوقف كل عابرو الكوبري، وراحوا يدفعون ثمن البيض المكسور. هاتان القصتان، دعمتا فكرة وجود رغبة لدى الكاتب لتسجيلهما، بأكثر من رغبته فى السرد، ووقت مناقشة المجموعة داعبه صديقه الروائى أشرف عبد الشافي، بأنه «فقس صاحبه» وعرف أنه بصدد مشروع روائى قريب. وسوف أستأذن الشيطي، فى توضيح ما يراه بشأن السرد القصصي، والذى تناوله فى مقالة بعنوان «النوم إلى جوار الديناصور»، يتساءل «هل بتنا إزاء فن عصى على التقعيد، مشتبك بكل فنون النثر؟ هل يمكن أن تكون القصة القصيرة فصلاً فى رواية، شذرة من مقال، مخاطبة فى نص مقدس، بيتا فى قصيدة؟ أين يبدأ النص القصصى القصير؟»، يكمل « يبدو أن زمان «العقد»، «الحرباء»، «موت موظف»، وقتيل «ادجار ألان بو» تحت أخشاب الحجرة، والخاتم السحرى لبيت من لحم، ومحطة السكة الحديد المتاهية، وجبل الشاى الأخضر.. إلى آخر النهر.. تبقى مرجعية ما، خالدة نسبياً، محفوفة ومهددة، إزاء من يكتبون أسطراً ومقالات باعتبارها نصوصاً جديدة تحاول انتزاع مكانها إلى جوار النصوص القديمة». عنوان الكتاب، لم يؤخذ من إحدى القصص كما هو متعارف عليه، بل جاء شاملا لحالة المجموعة العامة، ولم يأت شاذا، لأن البعض رأى هذه النصوص وكأنها بالفعل .. ضوء شفاف ينتشر بخفة.