قبل جولة «الرصاص المسكوب» وبعدها، التى شنتها العسكرية الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة، يزداد الطلب على التّصريحات العنصريّة فى البازار الانتخابى الإسرائيلى، الّذى يحوّل الآن زعيم حزب الليكود اليمينى بنيامين نتنياهو إلى شخصيّة «وسطيّة» مقارنة بأمثاله من زعامات اليمين الدينى والقومى المتطرّف. وإسرائيل التى تعيش اليوم أجواء ارتدادات فقدانها زعاماتها التّاريخيّة، تراها مكبّلة بمواقف ليست منسجمة، وهى لم تعد «ماركة مسجّلة» لهذا الحزب أو ذاك، فالاختلاط «المواقفي» يذهب اليوم - وفى غمرة التّجاذبات الانتخابيّة وحملاتها المتصاعدة - فى اتّجاهات لم يعد من السّهل تمييزها، على الأقل بين القوى السياسيّة والحزبيّة الرّئيسيّة: العمل والليكود وكاديما، ومن لفّ لفّهم من قوى اليمين القومى. فجميع هؤلاء، وإذ يحسمون خياراتهم بالتّوجّه إلى مخاطبة النّاخب الإسرائيلى دون غيره من الأصوات العربيّة (الفلسطينيّة) فى الجليل والمثلّث والنّقب، فلأنّ خياراتهم ليست معنيّة بأيّ استجابة ترضى أولئك المواطنين الفلسطينيين، أو تستجيب لمطالب هذا الطّرف الإقليمى أو ذاك الدّولي، ولا حتّى تحالفهم الاستراتيجى وارتباطاتهم بدول الغرب، على رغم ما قد يكون اكتنف ويكتنف مواقف هؤلاء الغربيين من تغييرات، أو احتمال إجراء مثل هذه التّغييرات فى المستقبل القريب خصوصاً مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض وإذ تجاسرت ليفنى، بل وحملت على عاتقها مهمة تبشيرنا بقيام «دولة فلسطينيّة» (الأصح دويلة مقطّعة الأوصال)، فلأنّها تريد ترحيل من تبقّى من المواطنين الفلسطينيين فى أرض آبائهم وأجدادهم، إلى أراضى تلك الدّويلة العتيدة، كى تبقى كلّ الأراضى المحتلّة عام 1948 بمثابة «دولة اليهود» أو «الدّولة اليهوديّة» النّقيّة الخالصة!! وذلك وفق مزاعم «أنّ الحلّ القومى لكم (للمواطنين الفلسطينيين فى الجليل والمثلّث والنّقب) هو فى مكان آخر، والمبدأ هو قيام دولتين للشّعبين» وإذ يجرى تجاهل مكان إقامة «الدّولة الفلسطينيّة» العتيدة، على ألسنة قادة المؤسسّة السياسيّة والحزبيّة، وفى العديد من المواقف الإسرائيليّة الموجهة للرأى العام العالمى، فلأنّ أكثريّتهم تعتقد - كما كان يعتقد شارون - أنّ «الأردن هو الدّولة الفلسطينيّة»، وذلك على خلفيّة ذاك النّشيد الصّباحى لتلاميذ المدارس من اليهود الّذين يبدأون صباحهم بالإنشاد أن «الضّفّة الشّرقيّة لنا وكذلك الغربيّة» فأىّ مكان سيحوى الدّولة ما بين البحر والنّهر وحتّى الحدود العراقيّة، إذا كانت الضّفّة الشّرقيّة كذلك لهم؟!! وهذا ما دفع أحمد الطيبى رئيس «الحركة العربيّة للتغيير» لتوجيه كلامه إلى منتسبى حزب كاديما العرب: «اسمعوا زعيمة حزبكم جيّداً، إقرأوا وافهموا وحكّموا ضمائركم، هناك من يريد أصواتكم فقط وهو ما زال يحلم فى إبعادكم عن وطنكم وإهانة شعبكم وتشريده، ألم يحن الوقت للعودة إلى الحضن الدافئ للوطن؟». وإذا كان معنى «حلّ الدّولتين» أن يُطرد المواطنون الفلسطينيون من أرضهم فى الجليل والمثلّث والنّقب، إلى ما يفترض أنّها «الدّويلة الفلسطينيّة» العتيدة الموعودة، فهذا إجحاف مضاعف بحق الفلسطينيين، كلّ الفلسطينيين الّذين لا يعنيهم ولن يكونوا معنيين بتجاهل التّلاعب بديمغرافيا وجغرافيا فلسطين التاريخيّة، كوطن لا وطن لهم سواه، من أجل عيون «مواطنين يهود» أوروبيين وأمريكيين وآسيويين وأفارقة وغيرهم، لهم أوطانهم الأصليّة وفدوا منها، ليقيموا فوق أرض هذا الوطن (فلسطين) كياناً / دولة لهم حلموا توراتيًّا بإقامتها، ويحلمون اليوم باستكمال تطهيرها من أصحابها الحقيقيّين حفاظاً على «نقاء يهودى» مزعوم وموهوم. من هنا ضرورة أن يقترن رفع شعار حقّ العودة، عمليّاً، بالمطالبة، وبالتّأكيد على «الحق فى البقاء»: بقاء من تبقّى من الفلسطينيين فوق أرض وطنهم بقاء فاعلاً، كونهم أصحاب الأرض وأصحاب الوطن، وأصحاب الحقّ الطّبيعى والقانونى التّاريخى فى البقاء هناك: حيث هم، حيث ثقفوا أجدادهم وأجداد أجدادهم الّذين أعطوا الأرض اسمها وهويّتها. إذ إنّ كليهما الحق الفلسطينى الأوحد الّذى فُرّغ، بفعل عوامل النّكبة وموازين القوى التى أحالت وتحيل المفاوضات الآن إلى مجرّد عصا غليظة فى اليد الإسرائيليّة، وإلى مجرّد غصن يابس فى اليد الفلسطينيّة المكشوفة والمنقسمة سياسياً وجغرافياً، فيما حلم «الترانسفير» بأزيائه المتعدّدة ما زال حلم عتاة الصّهاينة، يختلف فى الدّرجة، وليس فى النّوع، كلّ من يسار الوسط واليمين القومى والدينى المتطرّف. ووسطيّة ليفنى أو بيريز أو باراك باتت لا تختلف كثيراً عن وسطيّة نتنياهو؛ الحامل فى جعبته الانتخابيّة اليوم «سلامة الاقتصادى الموهوم» و«أمجاد» مليكه (ملك إسرائيل): أرييل شارون قبل أن تبتلعه رقدة الغيبوبة. المصدر: جريدة «الحياة» اللندنية