أطلقت إيران أمس الأول قمرا صناعيا محلى الصنع لأغراض سلمية، أسمته أوميد (الأمل)، عبر حامل الأقمار الصناعية الإيرانى الصنع «سفير»، وحمل معدات لاختبار السيطرة على القمر الصناعى، ومعدات اتصال وأنظمة لإمداد الطاقة، ويفترض أن يعود إلى الأرض بعدما يبقى فى الفضاء ما بين شهر وثلاثة أشهر حاملا بيانات تساعد الخبراء فى أبحاثهم عن الكرة الأرضية والفضاء. وتعد هذه التجربة هى الثالثة، بعد تجربتين سابقتين أجريتا على صاروخ «سفير» القادر على حمل القمر الصناعى، وأن المدار الذى وُضع فيه القمر الجديد يبعد ما بين 250 إلى 500 كلم عن سطح الأرض. وكانت إيران قد افتتحت العام الماضى مركزا فضائيا هو الأول فى الشرق الأوسط (باستثناء إسرائيل) يهدف إلى إطلاق الأقمار الصناعية، ويضم قمرا صناعيا، ومحطة تحت الأرض للمراقبة، ومنصة للإطلاق. واعتبرت أن إطلاق هذا القمر إنجاز للعلماء الإيرانيين، رغم العقوبات والحصار المفروضين عليها، ورسالة قوية لدول المنطقة، خاصة بلدان العالم العربى التى دخلت منذ فترة فى سبات عميق رغم أنها تعيش فى عصر السلام، فلا هى محاصرة اقتصاديا من الغرب (بل هى تتلقى معونات سنوية ومساعدات) ولا هى تدفع ثمنًا سياسيًا لمواقفها الممانعة، إنما هى دول صديقة يتحدث قادة العالم عن حكمة قادتها ووداعتهم. والمؤكد أن إيران الأمة العظيمة والثورة الكبرى والتاريخية اختزلت فى مناورتها السياسية وفى لغة رئيسها الصاخبة والمتعصبة، وفى دورها السلبى فى العراق ولبنان وفلسطين، وهى أدوار خصمت من رصيدها السياسى لأنها أخذت تحديدا حركة حماس وقائدها المقيم فى دمشق كرهينة للدفاع عن مشروعها النووى وطموحها الإقليمى، رغم أن قدرتها الداخلية ستظل هى القادرة على حماية هذا المشروع، وليس ورقة حماس وتغذية الانقسام الفلسطينى. ولعل نجاح إيران فى إطلاق هذا القمر الذى من الصعب وصفه بالشيعى، لأن تكنولوجيا الأقمار الصناعية مثلها مثل كل التكنولوجيا المتقدمة تحتاج إلى نظم كفئة لامتلاكها، تعرف حدًا أدنى من القواعد الديمقراطية والحيوية السياسية والقدرة على الإنجاز الاقتصادى، وهى بالتأكيد أمور متوفرة لدى إيران بصورة جعلتها تتقدم تكنولوجيًا بصورة تناطح القوى الكبرى. إن الحمى المذهبية والطائفية التى اجتاحت العالم العربى، جعلتنا عاجزين عن التفكير فى أسباب امتلاك إيران هذه التكنولوجيا الحديثة التى من الصعب وصفها «بالشيعية»، كما نفعل لتبرير كل فشل عربى بإرجاعه إلى وجود «مؤامرة شيعية» ارتاح البعض بأن حلها مكان «المؤامرة الصهيونية»، لتبرير فشلنا فى التنمية والديمقراطية والتعليم والصحة وكل شىء. إن إطلاق الأقمار الصناعية تحكمه قواعد عالمية إذا نجحت إيران «الشيعية» أو الصين «الشيوعية» أو الهند «الهندوسية» أو إسرائيل الاستعمارية فى امتلاكها فإنها ستطلقه، ولن يوقف طموحاتها سقف الفضاء طالما امتلكت إرادة سياسية ونخبة قادرة على قبول التحدى. هذه النخبة التى تشكلت فى أعقاب انطلاق الثورة الإيرانية عام 1979 فى واحدة من أكبر التظاهرات غير الرسمية فى التاريخ الإنسانى كله، حيث خرج أكثر من 6 ملايين مواطن لاستقبال قائد الثورة العائد من منفاه فى باريس الإمام الخمينى، بعد أن ثار الشعب ضد جرائم نظام الشاه بعد سنوات طويلة من القمع والاستبداد، سقط فيها آلاف الضحايا، إلى أن انتصرت الثورة وتأسست الجمهورية الإسلامية. ومنذ ذلك التاريخ شهدت إيران نظاما سياسيا فريدا ربط بين العقائدى والسياسى، أى بين الفكر الدينى والمذهبى للثورة، ومتطلبات العيش فى ظل نظام سياسى حديث، فكان هناك برلمان منتخب ورئيس جمهورية منتخب لمدتين غير قابلتين للتمديد، لديه سلطات أقل من سلطة مرشد الثورة المنتخب أيضا وفق نظام ولاية الفقيه. وتعد التجربة الإيرانية من أكثر التجارب فى العالمين العربى والإسلامى تعقيدا وحيوية فى الوقت نفسه، فهى أولا نتاج واحدة من كبرى ثورات التغيير الشعبى فى العالم، وهى أيضا واحدة من أكثر التجارب التى امتلكت منذ بدايتها مؤسسات شبه ديمقراطية، فإذا نظرنا إلى إيران منذ عام 1981 فسنجد أنها شهدت خمسة رؤساء للجمهورية تناوبوا بشكل ديمقراطى على هذا الموقع الرفيع، فى حين أن بلدًا مثل مصر عرف رئيسًا واحدًا طوال تلك الفترة، دون أى فرص لتداول السلطة ولو من داخل النظام. وإذا كانت الديمقراطية فى إيران ليست كاملة، وتقف حدودها على أرضية النظام القائم، وتدور بين جناحين رئيسيين داخل نظام الثورة الإسلامية هما: الإصلاحيون الذين أوصلوا الرئيس خاتمى إلى الرئاسة، والمحافظون الذين يقودهم الرئيس أحمدى نجاد. وهنا يكمن الفارق بين النظام السياسى الإيرانى ونظيره المصرى، الذى استبعد المعارضة بكل أطيافها، وفشل فى أن يضع أى آلية للتنافس السياسى ولو بين أجنحته الداخلية، وتركها لصالح حروب الشلل، والمصالح الشخصية، والخلاف على النفوذ والتوريث بصورة أدت إلى إصابة الدولة والمجتمع برتابة وجمود غير مسبوقين، وأفقدت الناس أى رغبة فى المشاركة فى الشأن العام والاهتمام بقضايا الوطن. فى حين أن النظام السياسى الإيرانى وضع يده منذ البداية على أهمية إنهاء حالة «الرئيس الخالد» الذى لا يترك مقعده إلا بعد أن يخلص على شعبه أو يتذكره الله، واكتشف أن الانتخابات، ولو بين أجنحة النظام، تضفى حيوية على المجتمع والدولة، وتجعل سقف طموحاته فى الفضاء، وليس عند أخمص الأقدام. لقد أدت حيوية النظام الإيرانى فى الداخل إلى تعظيم قدراته فى الخارج، وبدت كفاءته فى الداخل سببا رئيسيا وراء توسعاته فى الخارج، فأصبحت إيران هى الطرف المناهض لأمريكا فى العراق دون أن تخسر جنديًا أو مليمًا واحدًا بفضل سياسات بوش الحمقاء، وأصبح لديها حلفاء فى لبنان وفلسطين وحتى السودان وغيرها. وإذا كان مفهوما أن سلطة إيران المعنوية والثقافية على كثير من شيعة العراق وعلى حزب الله كبيرة، فإنه ليس مفهوما أن يكون لها مثل هذا التأثير على حماس الجارة إلا إذا كان هناك خلل فى الأداء العربى والمصرى أدى إلى فشل فى استقطاب حماس، فمازال بعض قادة حماس يرتمون فى أحضان إيران بسبب صراعاتهم الداخلية مع قادة فتح، وفى الوقت نفسه هم يعلمون جيدا أن إيران قد تحارب للدفاع عن مشروعها النووى وطموحاتها الإقليمية وليس من أجل تحرير القدس أو فلسطين. إن تزايد النفوذ الإيرانى فى العالم العربى ليس وليد مصادفة أو طاقة مذهبية تضفى ذكاء خاصا على الشيعة وتسحبه من السنة، إنما هو نتاج نظام سياسى على مساوئه الكثيرة أكثر كفاءة من النظم العربية، المرأة فيه حاضرة فى الحياة العامة، والفن والموسيقى مزدهران، خاصة صناعة السينما، وهو بلد أكثر تقدما وأقل فقرا من بلد كبير مثل مصر، والمفارقة أن مواجهة النفوذ الإيرانى أو محاولة التوازن معه جاءت أيضا من دولة خارج العالم العربى، وهى تركيا المعتدلة والديمقراطية.. وبالتالى المحترمة والقادرة على التأثير. [email protected]