بعد سقوط بلنسية واصل الأراجونيون زحفهم فاستولوا فى زمن قصير على سائر القواعد القريبة منها وهى جزيرة شقر ودانية وشاطبة والبيضاء ولقنت ولم يبق بيد المسلمين من قواعد الشرق سوى مرسية. أما القشتاليون فكانوا يستكملون قضم بلاد المسلمين فى الأندلس من جهة الوسط، وبعد أن سقطت فى أيديهم قرطبة كان أهم هدف لهم فى تلك المنطقة هو الاستيلاء على مدينة جيّان التى كان ابن الأحمر قد تحصن بها واتخذها مقراً لرئاسته. وكانت جيان مدينة عظيمة حسنة التخطيط والبناء، ذات صروح وآثار جميلة، وكانت تتمتع بمناعة فائقة بأسوارها العالية وقلعتها الحصينة. ضرب الملك فرناندو الثالث حصاره حول المدينة واستمر الحصار شهراً وجيان تقاتل بضراوة وأهلها يعانون الجوع ونقص المؤن. وعندما أدرك ابن الأحمر صعوبة الموقف وصل لتفاهم مع القشتاليين باع به المدينة وقام بتسليمها للإسبان واعترف بطاعته للملك فرناندو، ووافق على أداء الجزية، وعلى أن يتعاون مع قشتالة فى سائر حروبها ضد المسلمين! وكان أن دخل القشتاليون مدينة جيان العظيمة، وحوّلوا مسجدها الجامع فى الحال إلى كنيسة وأقبل عليها فرناندو فى موكب ضخم بعد أن غادرها أهلها وتفرقوا فى قواعد الأندلس الجنوبية. ولما كانت جيّان من مراكز العلوم والآداب بالأندلس فقد انتسب إليها عدد كبير من العلماء والأدباء، منهم الفقيه أبو ذر مصعب الخشنى الذى أنشد بعد الخروج من جيان يقول: أجيّان أنت الماء قد حيل دونه.. وإنى لظمآن إليك وصادى. ذكرتك إذ هبّت شمال وإذ بدا.. لعينى من تلك المعالم بادى. متى ما أرد سيراً إليك تردّنى.. مخافة آسادٍ هناك عوادى. جلس عز الدين أنكش فى حديقة قصره تجاوره زوجته ريحانة ابنة السلطان، وقد بدا مهموما بسوء الأحوال فى البلاد، وأسرّ إلى ريحانة برغبته فى ترك البلاد والرحيل إلى مكان أكثر أمناً يستطيعون فيه أن يناموا مطمئنين. كان أنكش قد بدأت تداخله المخاوف لأسباب عديدة منها تدهور صحة السلطان، ومنها الثورة التى تجمعت نذرها فى الأفق، وكان يعرف أن كل بيت فى المدينة له عنده ثأر، وأن قصره وزوجته وممتلكاته ستكون من الأهداف الأولى للثوار بعد كل ما ارتكبه من جرائم وما قام به من سلب ونهب. لقد حظى أنكش بحماية السلطان وعطفه وحقق ثروته العظيمة من خلال مصاهرته، لكن شيئاً لم يعد مضموناً فى ظل ضعف السلطنة، وسبب آخر أحجم عز الدين عن ذكره لريحانة ابنة السلطان وهو أن أباها لا يتورع عن الغدر بأقرب حلفائه، ولهم فى همام الكوارشى أسوة. حقيقة كان الخلاص من همام أمراً طيباً، لكن من يعلم.. قد تدور الدائرة ويضطر البيكيكى إلى التضحية به أيضاً إرضاء لبعض سادته وحلفائه!. وكان عز الدين أيضاً يحمل فى داخله خوفاً شديداً من المطجن البصاص ويعرف أنه أصيب بالسعار وصارت رائحة الدم تنعشه، وقد لا يتوقف تهديده على اختطاف البندرية فقط، بل قد يدفعه جنونه لمحاولة الحصول على بنت السلطان أيضاً. أدركت ريحانة ما يجول بخاطره فطمأنته بأن والدها لا يمكن أن يتخلى عنهما، وأن قوة من الفرسان الأشداء تحرس القصر ليل نهار، ويجب ألا ينسى أن أخاها حسان صديق طفولته سيكون هو السلطان القادم، فمم يخاف إذن؟. أجابها أنكش بأن قصر الكوارشى لم يكن أقل منعة عندما اقتحمه المطجن وصرع كل من واجهه من الفرسان، ثم حمل صديقتها البندرية ورحل، وأضاف أنكش أنه يعلم قدر محبة حسان له، غير أن ولاية حسان فى ظل الوضع المتقلب للبلاد صارت أمراً غير مضمون، وقد يهرب هو أيضاً إذا ادلهم الخطر وزاد غضب العباد. كان أنكش يمتلك ضياعاً وقصوراً موزعة على عدة مدن قشتالية، وكان مثل السلطان البيكيكى لا يشعر بالأمان إلا فى صحبة أعداء المسلمين، لهذا كان لا ينفك يفكر فى الرحيل والاستقرار بعيداً عن ولاية يكرهه كل أهلها، ولم تكن حراسة الشرطة تحمل له الإحساس بالأمان..بالعكس كانت تحمل له مخاوف وتلقى فى قلبه وساوس من أن تأتى الضربة منهم، وهم فى مجموعهم لا يختلفون عن المطجن من حيث القوة والغدر. كانت الأيام تمر بالمطجن البصاص طويلة فى الكهف الذى أوى إليه، وكانت البندرية قد توصلت معه إلى اتفاق يقضى بألا يمسها بسوء، وألا يحاول أن ينالها عنوة مقابل موافقتها على الزواج منه والرحيل معه إلى حيث يشاء بعدما يستخرج الكنز. كانت المسكينة قد لجأت للحيلة وشراء الوقت فى محاولة لاتقاء أذاه حتى تستطيع الهرب أو يتمكن الجند من الإمساك به، ولم يكن من السهل على المطجن القبول بهذا الاتفاق لولا أن هددته بأن تقتل نفسها ولا ينالها إلا جثة، فضلاً عن أن هيامه وتعلقه بها كانا سبباً فى إذعانه عسى أن يلين قلبها فتتزوجه وتمنحه نفسها راضية. ولم يكن يمضى يوم دون أن يهبط المطجن فى الليل إلى شاطئ النهر بعد أن يُحكم وثاق أسيرته خشية هروبها مرة أخرى. ولم تكن الظروف قد أصبحت مناسبة للغوص فى قاع النهر واستخراج الكنز، وإن كانت الحراسة قد خفّت إلى حد كبير على طول شاطئى النهر وبدأت أعداد الجند تتناقص يوماً بعد يوم، وقد وصلت إلى مسامعه وهو يسترق السمع ذات ليلة مختبئاً عند النهر أنباء تناقلها الجنود عن أن أبا الحسن المراكبى قد أخبر السلطان البيكيكى أن المطجن قد غادر الولاية وعبر إلى مراكش، وقد أسعدته هذه الأنباء وأشعرته بقرب بلوغ المني. لكن ما أصابه بالقلق هو المكافأة التى أعلن عنها الشيخ عجينة من فوق المنبر لمن يساعد فى القبض على المطجن أو إحضار رأسه، تلك المكافأة التى رصدها الكوارشى فى سعيه لاستعادة ابنته. ألهبت قيمة المكافأة الكبيرة خيال الناس، وتمنى كل واحد منهم أن يكون سعيد الحظ الذى يحظى بها، خاصة أن سبل الرزق قد ضاقت والبطالة استحكمت وأصبح القوت شحيحاً.. لكن خطر مواجهة البصاص القاتل كان يردع تلك الأخيلة ويردها إلى الواقع. إلى أن كانت ليلة هبط فيها القاتل وأخذ يجوس متسللاً على الشاطئ فلم يبصر أحداً من العسس للمرة الأولى منذ زمن طويل، فأدرك أن اليأس قد نال منهم وأن أوان استخراج الكنز قد دنا، فأخذ يستعد سريعاً للعمل، ووصل إلى أطراف المدينة وتحين الفرصة فاقترب من جواد مربوط غاب عنه صاحبه، فحل رباطه واستولى عليه وعاد به مسرعاً ثم قام بربطه إلى فرسه وانطلق يعدو بالفرسين إلى جهة النهر وهو يمنى النفس بأن يقوم بتحميل الصندوق الكبير على ظهر أحدهما وامتطاء الآخر ليعود للبندرية ومعه مهرها. ربط المطجن الجوادين وبدأ يخلع ملابسه استعداداً للغوص عندما سمع حوافر خيل تضرب الأرض وتتجه بأصواتها نحوه فجمد فى مكانه وقد ألجمته المفاجأة.