الأحداث المثيرة التى وقعت فى غزة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية وكانت ساحاتها أراضى غزة وشعبها الصامد وحماس المصممة من ناحية، ومن ناحية أخرى الجيش الإسرائيلى المدجج بالسلاح: السلاح الذى يحمله الجندى ويجعله يشبه «روبوت» أو السلاح من الجو ومن الدبابات ومن البحر.. نقول إن أحداث هذه المعركة لا تقتصر على غزة، إن لها تداعيات مهمة قد تكون قصيرة المدى، وقد تكون طويلة المدى. وأمامنا مقالان كل واحد منهما يعرض هذه التداعيات. ويصور التداعيات القريبة المدى المقال الذى نشرته المجلة الأمريكية «التايم» وعرضته جريدة «الفجر» (19/1/2009) تحت عنوان «إسرائيل لن تنتصر» زادت «الفجر» فى ترجمتها كلمة «أبدًا»، وجاء على غلاف المجلة رسم لنجمة داود، وقد دفن نصفها الأسفل فى الرمال وأحاطت بها الأسلاك الشائكة. أشار المقال إلى أن خوف إسرائيل الطبيعى ليس من صواريخ القسام التى تخطئ أهدافها أكثر مما تصيب، ولكن من الزيادة السكانية التى ستخل التوازن الديموجرافى ما بين العرب والإسرائيليين، ونرى أن عددهم الآن يزيد على عدد الإسرائيليين بأغلبية محدودة، ولكن يمكن أن تصل إلى نقطة يجد الإسرائيليون أنفسهم عندها فى خيار بين التعايش مع دولة فلسطينية مستقلة وأن يكونوا أقلية. وترى الجريدة أن النقطة الصعبة هى كيف يمكن لإسرائيل التوصل إلى سلام مع هؤلاء الذين لا يريدونها، وتستشهد بخطاب لأولمرت رئيس الوزراء الإسرائيلى أنه لا يريد القضاء على «حماس» لأنه يعرف جيدًا أن إسرائيل غير قادرة على ملء الفراغ السياسى لغياب حماس، كما سيعجز عن ذلك محمود عباس، لذلك فإنه يكتفى بأن تكف حماس عن إطلاق صواريخ حماس وأن تتواجد قوات دولية لمراقبة الحدود ما بين إسرائيل ومصر لمنع تهريب الأسلحة وشل قدرتها على إعادة تسليحها بعد الحرب، وحماس من جانبها قالت إنها مستعدة على الموافقة على الهدنة لو انسحبت إسرائيل من غزة وخففت من الحصار الاقتصادى الذى تفرضه على أهلها. أما المقال الثانى الذى يصور لنا التداعيات طويلة المدى وما يخالج نفس إسرائيل ومعها بقايا مجموعة صقور بوش من المحافظين والمسيحيين الصهيونيين فهو المقال المهم الذى كتبه الدكتور أنور عبد الملك ونشرته الأهرام يوم 13/1/2009. يبدأ مقال الدكتور أنور عبد الملك بكلمة أعلنها بكل وضوح: إن عملية غزة هدفها هو تغيير المعادلة فى المنطقة، وأن ذلك يعنى القضاء على توازن القوى منذ حرب التحرير 1973 ومعاهدة كامب ديفيد 1978، ويرى أن أول خطوة هى دفع سكان غزة مكرهين إلى مغادرة ديارهم والتدفق عبر الحدود ومعابرها إلى سيناء بحيث يتم حل قضية غزة بتفريغها من أهلها وبسط القوة الهجومية للدولة الصهيونية على عموم أراضى فلسطينالجنوبية، وبالتالى تهديد سيادة مصر عن امتدادها الشرقى فى سيناء وصولاً إلى قناة السويس شريان الملاحة العالمية بكل ما يمثل ذلك من تهديد مفزع للأمن القومى المصري. ويستعيد المشروع الصهيونى الذى يهدف إلى شق قناة جديدة بين شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر تبدأ من شواطئ إسرائيل وتوازى مجرى قناة السويس فى الشمال بحيث تكون هذه القناة الجديدة تحت السيطرة الاستراتيجية المباشرة للدولة الصهيونية. ويربط الدكتور أنور عبدالله ذلك بالنبرة المرتفعة التى تصر على محاكمة رئيس جمهورية السودان وجنوب الوادى أمام محكمة دولية بهدف تقسيم السودان الشقيق الأغر إلى شمال وجنوب وربما منطقة أبيى المتحكمة فى مساحة البترول، ثم غربًا فى دارفور وربما فى منطقة السودان الشرقية، وهو المخطط المعروف منذ أمد بعيد والذى يدخل حيز التنفيذ، بينما تتحرك كماشات الغزو والحصار حول جنوب الوادى لتقسيمه فى المقام الأول بهدف تملك أكبر مساحة من الأراضى الزراعية الموجودة فى حدود السودان كما نعرفه اليوم، وهى التى حددت المراكز الاستراتيجية صانعة القرار منذ 1965 وأنها تستطيع توفير الغذاء لسكان المعمورة كلها، ثم يأتى الإعداد للقضاء على القوى الصاعدة الأخرى فى الشرق الأوسط الكبير، أى إيران وتركيا».. انتهى الاقتباس من مقال الدكتور أنور عبد الملك. نقول إن هذين العرضين يكمل أحدهما الآخر وما قدمته «التايم» يمثل التداعى السريع رغم اتسامه بدرجة من السذاجة، وما عرضه الدكتور أنور يمثل التداعى طويل المدى الذى يمكن لإسرائيل أن تشرع فيه، وهو مشروع أعتقد أن معظمه لن ينجح، لأن إسرائيل ليست وحدها فى الميدان، ولأن طبيعة الأشياء وإرادة الشعوب ستحول دون تحقيق ذلك. على كل حال، إن ما يهمنا الآن هو التداعى القريب، وهو ما تحقق بفضل المبادرة المصرية التى وإن كانت غير كافية، وليس فيها ضمانات.. الخ، إلا أنه كان لازمًا أن تكون كذلك حتى تنجح فى هدفها السريع وهو وضع حد لمجزرة يموت كل يوم فيها ستون شهيدًا ويجرح مثل هذا العدد، وتدمر مدارس ومستشفيات.. إلخ، إن المبادرة دعوة للمفاوضة وستضطر إسرائيل وحماس لقبول تنازلات بحكم الضغوط والمؤثرات الدولية، وعندما ستنظر إسرائيل إلى ثمرة عدوانها، وعندما تعيد حماس النظر فى سياساتها التى لم تكن سليمة دائمًا، ستجد كل واحدة أنها خرجت خاسرة وسيجعلها ذلك تقبل التنازلات المتبادلة. ولنا ملاحظات: أولاً: ما أشار إليه المقال الأول عن خوف إسرائيل من الخلل الديموجرافى، وما أشار إليه المقال الثانى من دفع سكان غزة للمعابر يمكن أن يفسر لنا سر الوحشية التى اتسم بها الهجوم وأنها كانت تتصيد الأطفال والنساء لتحرم غزة من مستقبلها القريب الذى يمثله هؤلاء الأطفال ومستقبلها البعيد الذى يمثله النساء، وبهذا تخلص إسرائيل من خوفها وفى الوقت نفسه تهدد الأمن القومى المصرى. ثانيًا: إن مصر هى الدولة الوحيدة التى تستطيع أن تتعامل مع إسرائيل بحكم التاريخ الذى لا يمكن أن يباع أو يشترى، فعلاقة مصر باليهود تعود إلى أيام موسى الذى كان هو نفسه نصفا مصريا ونصفا إسرائيليا، وبعد ألفى سنة تقريبًا عندما ظهرت بدايات الدولة الصهيونية عام 1948 قادت مصر الحرب عليها ودفعت بالفدائيين، وكانت هى التى دفعت الثمن الفادح لهزيمة 1967 التى أدت إليها القيادة العاجزة، كما كانت هى التى كسبت انتصار رمضان وإن اضطرت أخيرًا لعقد معاهدة كامب ديفيد حتى تستعيد سيناء، فلو انتظر السادات اتفاق العرب لغرست سيناء بالمستوطنات، ولن تغفر إسرائيل للسادات أنه أفقدها حلمها فى سيناء بعد أن كانت أدنى ما تكون إليه، وقد جعلتها كامب ديفيد حليفة رسمية ولكن ما من دولة يمكن أن تكون سعيدة عندما يكون على حدودها دولة عدوانية تملك مائتى قنبلة ذرية، وهى لا تملك شيئاً، وهكذا قضت الأوضاع المعقدة بأن تكون مصر وإسرائيل حليفتين، وإن كانت كل واحدة تمقت الأخرى، لأن الأوضاع السياسية تفرضها الوقائع، وتوازنات القوى وعدد كبير آخر من العوامل، ولا يمكن للعواطف والأمانى أن تغيرها، وإنما يمكن تغييرها بوضع سياسة استراتيجية طويلة المدى تجمع عليها الدول العربية، وهذا للأسف الشديد، وكما يعلمه كل واحد، غير متيسر الآن. وبالنسبة لغزة، فغزة نصف فلسطينية ونصف مصرية، وقد ولد بها الإمام الشافعي، ولكنه دفن فى مصر، وقد حكمت أو أدارت مصر غزة حيناً، وقد كانت فى عهدة مصر بمقتضى معاهدة 1949 لحين الوصول لتسوية. وهكذا فإن مصر هى وحدها التى يمكن أن تتعامل مع إسرائيل عندما يراد تسوية، وغيرها عاجز تمامًا، وآمل أن تتفهم الدول العربية ذلك، وتدع الأمر للأطراف الثلاثة مصر وإسرائيل والشعب الفلسطيني، وهذا لا يمنع من أن تقف كل الدول العربية وراء مصر، لأن هذا سيعزز وضعها. نقول هذا ونحن نعارض السياسة الداخلية للنظام، فنحن نرفض الفساد المستشري، نرفض الاعتقالات، نرفض تعذيب الأبرياء فى أقسام البوليس، نرفض سياسة «بيع مصر» بقضها وقضيضها، نرفض استلحاق النقابات والجمعيات والأحزاب، نرفض كبت الحريات وتزييف الانتخابات. ولكن هذه «نقرة» والمفاوضات «نقرة» أخرى، وشعب مصر هو المسؤول عن تسويتها. كلمة أخيرة فى أذن المفاوض المصرى: حذار أن تنقل إلى المفاوضة الخطأ القاتل الذى ارتكبته فى السياسة الداخلية بمعاداة الإخوان المسلمين، وحذار أن تُحَمِّل حماس فكرتك عن الإخوان، وقد قال الدكتور الفقى فى مقال له «إن مصر لا تطيق قيام إمارة إسلامية فى غزة». إن الأمر فى هذا ليس لك.. إنه لشعب غزة. ولماذا يا سيدى لا تطيقه؟ فقد يكون ذلك لو فكرت مليًا وبموضوعية فى مصلحتك وأنت لا تدرى؟ وكلمة أخرى فى أذن حماس: اتركى إيران، وأى طرف آخر يريد استغلالك، كونى أمينة على شعبك، ويكفى ما سال من دماء. أرجوكم! ارحموا فلسطين من تدخلاتكم التى تعوق العمل الجاد.