كانت «جمعة» غير عادية.. صحوت مبكراً على غير العادة، فالنوم خطيئة فى أيام العار.. جلست أمام فضائيات «الموت المباشر»، عدَّاد الشهداء فى غزة أسرع من قدرة المراسلين على الإحصاء.. أنكمش فى مقعدى كلما رأيت طفلاً فلسطينياً يتحول فى لحظات إلى أشلاء، أبنائى لايزالون فى فراشهم.. ولكن عجز أبيهم وإيمانه الضعيف قد يحيلهم يوماً إلى ضحايا قصف إسرائيلى متوحش أو نزوة أمريكية فى منطقة بلا كرامة تقطنها شعوب بلا ثمن!. أنزوى فى ركنى، وكأن شاشة التليفزيون تغتصب رجولتى.. هل حياتى أغلى من هؤلاء، هل دمى أكرم من دمائهم.. ماذا سأقول لرب العزة حين يسألنى «ماذا فعلت دفاعاً عن الأرض والعِرض وأخيك المسلم؟».. سوف أصمت قطعاً، لأن الكتابة لا تحمى الأطفال والنساء من نيران الغدر.. الكتابة أضعف الإيمان فى بلاد لا يسمع حُكامها أنين الموتى تحت الأنقاض.. فإذا عز الأنين والصراخ على السمع، فهل يتغير شىء على أسنة الكلمة؟!. لحظات.. ويأتينى النبأ العاجل على «شاشة الموت».. اغتيال سعيد صيام، وزير الداخلية فى الحكومة الفلسطينية المُقالة.. مات الرجل الذى زارنى فى مكتبى منذ عامين تقريباً.. بدا «صيام» يومها وكأنه موظف درجة عاشرة.. شخص زاهد يرتدى بدلة عادية.. وطلب تاكسى أو سيارة لنقله إلى الجريدة، ثم تناول معنا إفطار رمضان، عدة لقيمات، وصلَّينا خلفه فى سكينة الشهداء. مات سعيد صيام ولم يبكه أحد.. ربما لأن الدموع لا تكفى «عداد الموتى».. أو لأن الأعين باتت أضعف من زلزلة البكاء!. «شاشة الموت» تنتقل من أرض الأشلاء إلى «قمة الزعماء»: الدوحة واجهت الأعداء العرب ب«ربع قمة»، والأعداء العرب حاربوها ب«ربعين».. «ربع قمة» فى الرياض.. و«ربع قمة» فى الكويت.. احتاجت قطر نصف مساحة العاصمة تقريباً لبناء قاعة فخيمة تعقد فيها القمة.. واحتاجت الرياض «العين الحمرا» لتجمع كام دولة فى عاصمتها الباردة.. واحتاجت الكويت «غضب مصر على قطر» لتعقد جلسة تشاورية إلى حين انتهاء إسرائيل من «المجزرة». نجح الحكام العرب، لأول مرة فى التاريخ، فى عقد 3 قمم فى وقت واحد.. رقم قياسى جديد ستعجز أية أمة عن تحطيمه.. غير أن الإنجاز الحقيقى أن «القمم الثلاث» فرزت وصنفت بوضوح المحطات الفضائية العربية بولاءات التمويل والتبعية.. ولم يعد بإمكان أحد أن يقف أمام الميكروفونات، ويقول إن لدينا محطات مستقلة ومحايدة.. كل محطة فضائية تحولت إلى قناة محلية دفاعاً عن قمة «أميرها» أو اجتماع «رئيسها» أو «جلسة ملكها»!. جاء موعد صلاة الجمعة.. ارتفع الأذان، فسحبت هزيمتى من أمام «شاشة الموت» وتوجهت إلى المسجد.. فى الطريق شرد ذهنى فى مظاهرات الغضب التى ملأت شوارع العرب.. نحن نهتف ونرفع اللافتات.. نحن نخطب فى الميكروفونات، ونصرخ أمام شاشة التليفزيونات.. فهل يسمع أحد.. هل يخترق هتافنا جسد إسرائيل.. هل يحطم صراخنا تل أبيب.. هل ترتعد أوصالها وهى تشاهدنا على الشاشة؟!.. تبددت الأسئلة وأنا أتابع «خطبة الجمعة».. كان الإمام منفعلاً وهو يؤكد أن عدوان إسرائيل على غزة هو «ابتلاء من الله».. قال بصوت خشن «اصبروا وصابروا.. إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه».. كان يجلس بجوارى رجل أربعينى يلتحف «كوفية فلسطينية» حول رقبته.. رفع كفيه وهو يردد بخشوع «آمين» خلف الإمام.. «اللهم بدد شمل اليهود.. آمين.. اللهم زلزل الأرض تحت أقدامهم.. آمين.. اللهم اخسف اليهود قردة وخنازير.. آمين.. اللهم أخرج لهم جيش محمد من كل حدب وصوب.. آمين.. آمين.. آمين.. وأقم الصلاة». خطف بنا الإمام الركعتين.. ثم خطف كل منا حذاءه بسرعة.. كانت عربات الخضروات والفاكهة تحيط بالمسجد، وعلا صوت الباعة «كله طازة وبربع التمن».. تسابق المصلون صوب العربات، حاصروها من كل جهة.. كان الموز ال«تلاتة كيلو ب10 جنيه».. والبرتقال ال«أربعة ب 10 جنيه».. واليوسفى ال«تلاتة ونص ب 10 جنيه».. امتلأت الأكياس.. ولمحت الرجل الذى يلتحف الكوفية حائرًا، وهو يحمل «برتقاله» فى الحصول على كيس من البائع.. التفت يمينًا ويسارًا، ثم نزع «الكوفية الفلسطينية» ووضع فيها البرتقال، ثم ربطها بقوة.. وحمل «الصرة».. ومشى!! [email protected]