رحل الأديب والإنسان العذب يوسف أبورية وهو فى قمة عطائه الإبداعى والإنسانى (52 عاما). رحل بعد صراع مع السرطان الذى يبدو أنه قد تفرغ مؤخرا للمصريين ووجد فى أجسادهم مرتعا خصبا لنهمه. رحل يوسف وقد تمت التضحية به على مذبح الروتين الحكومى ميت القلب قبل أن تتم له عملية زراعة كبد. رحل يوسف وهو يعرف تماما أن المصرى لا ثمن له فى وطنه، حتى لو كان أديبا نشر العديد من المجموعات القصصية والروايات وكتب الأطفال، وحصد عددا من الجوائز كان منها جائزة نجيب محفوظ التى تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة. رحل بعد أن شهد إخوته من المصريين تغرق بهم العبارات وتبتلعهم مياه المتوسط هربا من شظف العيش أو انعدامه، وتحترق بهم المسارح ويقتلون بعضهم البعض فى طوابير العيش وطوابير البوتاجاز. رحل بينما قتلة الأطفال والنساء- النازيون الجدد- يفتحون شلالات الدماء فى غزة، والحكام العرب يتناحرون ولا يمكنهم الاجتماع على موقف واحد محترم. أىُّ ألَمٍ كنت تعانيه يا يوسف فوق آلام جسدك؟ على مدى الشهور الأخيرة كنت أتابع مناشدة العديد من الكتاب والكاتبات الدولة كى تعالج يوسف أبورية، أو على الأقل تصدر قرارا بالإفراج عن العشرين مليون جنيه التى تبرع بها حاكم الشارقة لعلاج أعضاء اتحاد الكتاب، والتى قيل إن وزارة المالية قد احتجزتها. وكنت أشعر بالخجل أن يصل بكتاب مصر الحال إلى تسول أموال من الدولة أو أموال تبرعات تخصهم، ولكن الدولة لم تفرج عنها لأسباب غير معلومة. وبعد أن رحل يوسف ومنّ الله عليه بالرحمة من مهانة احتياجه إلى جهة تتكفل بعلاجه خرجت علينا «المالية»، التى لم نسمع لها حسّا طوال الشهور الماضية لتقول لنا إن هذه الأموال غير محتجزة عندها ولا هى لدى وزارة الثقافة بل إنها ومنذ تسلمها قد تم وضعها كوديعة باسم اتحاد كتاب مصر، ويا سلام على الدقة، فقد أكد مسؤول المالية، الذى لم يعلن الخبر اسمه («المصرى اليوم» 15 يناير 2009)، أن هذه الوديعة مدتها خمس سنوات وبفائدة قدرها 9% بالبنك العربى، كما يحدد الخبر تاريخ الإيداع وهو 17 فبراير 2008. ورغم أننى لم أفهم الكثير من التفاصيل الإدارية التى امتلأ بها الخبر فإنه أكد أن هذه الملايين هى من حق صندوق معاشات اتحاد الكتاب ولا توجد تعليمات من «المالية» ل«الاتحاد» بتعليق صرف هذه المبالغ. وتلا ذلك كلاما كثيرا مفاده أن المالية تتبرأ من دم يوسف وتعلقه فى رقبة اتحاد الكتاب. والسؤال الذى يفرض نفسه فى هذه اللحظة الأليمة: أين كانت وزارة المالية طوال الشهور الماضية التى امتلأت باستغاثات من المبدعين والصحفيين على صفحات الجرائد؟ لماذا لم نسمع لها صوتا طوال ذلك الوقت وهى تعلم أن وفاة يوسف ستفتح عليها مزيدا من النيران؟ وإن كان تبادل الاتهامات قد بدأ بعد وفاة أحد مبدعى مصر فلابد للكتاب والفنانين أن يطالبوا بتحقيق يثبت الجهة المدانة فى هذه الجريمة. لن يعيد التحقيق يوسف الذى رحل إلى السلام المطلق ورحمة الله الواسعة، بعيدا عن ألم العيش فى بلد يقتل مواطنيه، وأمة لا يهتز لحاكميها جفن أمام أنهار الدماء فى غزة. لكن التحقيق على الأقل لن يترك دم يوسف يتفرق بين المالية والثقافة واتحاد الكتاب، وربما يحول دون وقوع كارثة أخرى. ما زلت أذكر آخر لقاء مع يوسف أبورية قبل مرضه. كان حنونا مشجعا وهو يتحدث عن روايتى الأخيرة بمحبة. شكرته وقلت لنفسى إن من يفرح لآخر بمثل هذا النقاء هو لا شك شخص رحب القلب. فلتنعم يا يوسف بما أنت فيه من سلام الآن، ولنحاول نحن ألا يتفرق دمك بين قبائل الحكومة الذكية.