رأيت الدكتور محمد غنيم عن قرب، مرتين، مرة فى بيت الدكتور أحمد زويل بالهرم، على امتداد ساعات، ومرة فى مطار القاهرة، وكان لقاءً عابراً، فقد كان هو قادماً من بيروت، وكنت قادماً من باريس، وكان يقف فى طابور لإنهاء أوراقه، دون أن يقفز على دور أحد، أو يشق الصفوف لأنه محمد غنيم، أو لأنه يجب أن يحظى بمعاملة خاصة!! إنه يميل إلى أسلوب الدكتور أسامة الباز فى الحياة، ويريد أن يظل بسيطاً، وأن تمر حياته فى هدوء! ومساء أمس الأول كانت منى الشاذلى تحاوره فى العاشرة مساء، وكان يقف معها على باب معبر رفح فى انتظار أن يجتازه إلى داخل غزة، واضعاً نفسه تحت تصرف الجرحى والمصابين هناك، وراغباً فى أن ينقل كلامه من معاناة أبناء فلسطين، من مرحلة الحديث الذى قد لا يقدم ولا يؤخر، إلى مرحلة الفعل على الأرض! وكان محمد غنيم، قد ذهب إلى المعبر، دون أن يحيط نفسه بدعاية إعلامية، يمارسها كثيرون حول أنفسهم، إذا دخلوا الحمام، وكان يرتدى بنطلوناً بغير حزام، مع قميص خفيف وفوقهما كوفية حول رقبته، وكأنه جندى مقاتل فى جيش يخوض معركة مصير! وكان موجعاً حين قال شيئين.. الأول: أنه لا يجوز أن يدخل الأطباء الأجانب إلى غزة، بينما يجلس هو يتناول العشاء مع أصدقائه فى نادى اليخت ويتبادلون النكات.. لا يجوز ولا يليق.. والثانى: أن منى الشاذلى إذا كانت قد بدت متخوفة على حياته، من عبور الحدود، إلى منطقة متفجرة بالدم، وإذا كان تخوفها نابعاً من منطلق أنه ثروة قومية نخشى عليها من الخطر، كما قالت، فتقديره هو كما قال، إن الغاز ثروة قومية، ومع ذلك فإن حكومتنا تبدده، ولا تريد أن تبعث من خلال وقف تصديره إلى إسرائيل رسالة إلى جنرالات تل أبيب، الملطخة أياديهم بالدماء. وحين أبلغوه فى رفح، أن عليهم أن يستأذنوا المسؤولين المختصين فى القاهرة أولاً، قبل السماح له بالعبور، لم يملأ الدنيا صراخاً وصخباً، ولم يرفع الحذاء فى وجه أحد، ولم نعرف بوجوده على الحدود إلا مصادفة من خلال قناة دريم، فى وقت صدَّع فيه الذين لم يذهبوا ولا فعلوا شيئاً، رؤوس الناس بالكلام الفارغ الأجوف! ولابد أن الرجل يعيد تذكيرنا بالزمن الذى كان فيه الفلاسفة العظام يخرجون إلى الشارع، ويطلبون للناس الحرية، ويقودون المظاهرات والاعتصامات، خصوصاً «برتراند راسل» فى لندن، و«جان بول سارتر» فى باريس باعتبارهما الأشهر.. وغيرهما فى عواصم أخرى.. وكانوا جميعاً يؤمنون بأن الكلام عن آلام الناس، إذا لم يؤد إلى شىء عملى، فهو بلا قيمة، وأنهم إذا كانوا قادرين على تحويل أفكارهم إلى واقع، فالتقاعس عن ذلك، نوع من الخيانة والخذلان! وقد كان الدكتور غنيم، إلى مدة قريبة يكتفى بوجوده فى مركز المنصورة الشهير، الذى أسسه ويحمل اسمه، وكان فيما أظن يتصور أن وجوده هناك فيه الكفاية، ثم أحس من جانبه، فيما يبدو، بأن يده، إذا كانت قد انشغلت طويلاً بعلاج الموجوعين فى المركز، فإن عقله يجب أن يشارك فى علاج البلد كله، من أوجاع تلازمه وهى كثيرة، فخرج من المنصورة إلى كل ركن فى الوطن، داعياً فى كل لحظة إلى بناء البشر قبل الحجر! يعيش محمد غنيم!