تكتمل أركان الجريمة حين يصبح عدد المتواطئين أكبر من عدد رافضيها، وتصبح الجريمة كاملة حين تمتلك غطاء شرعيا لا يعتبرها حتى جريمة «قتل خطأ»، إنما يجد لها المبررات والأعذار لكى تتحول إلى عمل طبيعى، بل فى بعض الأحيان إلى نوع من الكفاح والبطولة. هذا ربما ما فعلته إسرائيل بعدوانها الغاشم على قطاع غزة، حين هيأت المسرح الدولى لقبول تلك الجريمة، وقبلها الفلسطينى بانقسامه الداخلى، والعربى بعجزه عن مواجهتها. والحقيقة أن إسرائيل استفادت من عوامل ثلاثة كانت بمثابة أركان «لجريمتها الكاملة»: الأول يتعلق بالمجتمع الدولى، وهنا من السذاجة وضع التعاطف الغربى الدائم مع إسرائيل كسبب وحيد ومكرر وراء قيامها بجريمتها الكاملة، إنما أساسا لكون هذا العدوان وضع فى إطار «الحرب ضد الإرهاب»، وقامت إسرائيل بحمله دعائية واسعة فى الإعلام الغربى، ونشاط دبلوماسى مكثف من أجل التأكيد على أن الحرب على حماس هى جزء من الحرب الأمريكية على الإرهاب، وأن إسرائيل انسحبت من قطاع غزة، وبالتالى لا يوجد مبرر لكى تطلق حماس الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية. ولأن إسرائيل لديها حلفاء كثر فى الغرب، وجماعات ضغط موالية لها فى الإعلام وغيره، ودبلوماسية نشطه وفعاله غير دبلوماسية العلاقات العامة التى يعرفها العالم العربى، فحولت تلك الادعاءات إلى «حقائق» صدَّق عليها صانع القرار الأوربى (وهذا هو الجديد) تماما مثلما فعلت إدارة بوش الراحلة. والحقيقة أن حماس ليست جماعة إرهابية، ولا يمكن وضعها بأى حال مع خلايا القاعدة فى سلة واحدة، فهى حركة تحرر وطنى لها خطاب إسلامى، لديها عنوان معروف (فلسطين)، وكوادر سياسية انتخبها الشعب الفلسطينى وغير مختبئة فى جبال أفغانستان، صحيح أنهم أخطأوا فى الكثير، وغابت عنهم القدرة على فهم العالم بقواعده وتحيزاته، إلا أنه لا يمكن القول إنهم جماعة إرهابية مثلهم مثل الجماعات التى تقتل الأبرياء من أمريكا إلى الهند. إن التحدى الذى وضعه صعود حماس أمام المجتمع الدولى، يتعلق بكيفية دمجها فى مسار التسوية السلمية التى قبلتها جزئيا، وكانت على استعداد لقبول المزيد فى حال أعطت إسرائيل والمجتمع الدولى، شيئا ذا قيمة للشعب الفلسطينى أو حتى لسلطة عباس المعتدلة (كوقف بناء المستوطنات، الإفراج على الأسرى، وأخيرا دولة فلسطينية مستقلة). والمؤكد أن إسرائيل ظلت محتلة قطاع غزة رغم انسحابها منه، وحاصرت القطاع وجوعته لأشهر، وأغلقت معابره أمام المساعدات الإنسانية، ووقفنا جميعا نتفرج على الحصار واغتيال النشطاء باعتباره أمرا عاديا، وكأن إسرائيل لم تعد بالفعل سلطة الاحتلال الحقيقية لقطاع غزة. إن دمج حماس فى مسار التسوية كان سيفرض على الدولة العبرية والمجتمع الدولى استحقاقات تملصوا جميعا منها، وكان سيفرض عليها هى الأخرى مراجعات فى طريقة تفكيرها تبدأ على الأقل بحل كثير من تناقضاتها السياسية، حين أعلنت مثلا أنها لا توافق على اتفاقات أوسلو التى بفضلها وصلت إلى ما يسمى السلطة الفلسطينية، أو حين حسمت سيطرتها على قطاع غزة بالقوة المسلحة فى واحد من أخطائها الكبرى. إن رفض المجتمع الدولى حماس كشريك منتخب فى العملية السياسية، أدى إلى إضاعة فرصة تاريخية كان يمكن أن تفتح الباب للتفاعل السياسى بين الجانبين، وإيجاد علاقة تسمح لكلا الطرفين بالتأثير والتأثر المتبادل، وتساعد فى النهاية حماس على التطور والاندماج فى المنظومة الدولية من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطينى. والمدهش أن الموقف الأمريكى من رفض الحوار مع حماس لصالح إسرائيل، قد تواكب معه حماس شديد للحوار مع التيارات الإسلامية السنية المختلفة فى العراق، وعلى رأسها الحزب الإسلامى العراقى المنتمى إلى «مدرسة الإخوان المسلمين»، والذى بذلت الإدارة الأمريكية جهودا كبيرة لدعوته واستمراره فى العملية السياسية، وقامت بالحوار مع بعض الفصائل الإسلامية التى تمارس أعمال مقاومة مسلحة فى العراق، لأن فى الحالة العراقية لم يهدد الحزب الإسلامى أمن إسرائيل، فقبل ودعم من أجل أن يصبح طرفا فى العملية السياسية فى مشهد يدل على غياب أى موقف مبدئى وراء موقف الإدارة الأمريكية الراحلة من الحركات الإسلامية. أما العامل الثانى وراء نجاح جريمة إسرائيل الكاملة فى غزة، فهو الانقسام الفلسطينى الداخلى، وخطاب حماس المثالى أحيانا، والغارق فى أوهام أيديولوجية وإقليمية أحيان أخرى. ورغم كل المعانى الاستنهاضية التى يعكسها مشروع حماس، ومحاولته الاستفادة من بعض الطاقات العربية، إلا أن كل تلك المحاولات لن تنجح فى إقامة مشروع سياسى قادر على إدارة شؤون السلطة، والعمل على استعادة الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطينى، دون أن يجد صيغة ما للتفاعل مع العالم الخارجى. وقد عجز خطاب حماس المقاوم عن إيجاد هذه الصيغة، وراهن على القدرات الذاتية الفلسطينية والعربية والإسلامية، والتى لا يمكن فى ظل الواقع الإقليمى والدولى الحالى اعتبارها رهاناً ناجحا. وأسباب ذلك عديدة، منها أولا طبيعة الواقع الفلسطينى نفسه، فلا توجد دولة، ولا مؤسسات حقيقية للسلطة، كما أن العالم العربى يعيش مرحلة فريدة من الضعف والانهيار، فحكومة حماس المقالة ليست إيران حتى يمكنها مناطحة العالم، بل فرضت عليها جغرافية قطاع غزة ألا تتقدم خطوة للأمام إلا عبر ابتكار صيغة ما للتفاعل مع العالم الخارجى. والمؤكد أن مسؤولية إسرائيل عن هذا الانقسام مؤكدة، (دون أن نغفل المسؤولية الفلسطينية والعربية الموازية)، فالشعب الفلسطينى يعيش تحت آخر سلطة احتلال عنصرى فى العالم، وبالتالى فإنه يحتاج إلى من يناضل بالطرق السلمية أو العسكرية من أجل الحصول على الاستقلال، ويصبح «صقور» الشعب الفلسطينى أو من يطلق عليهم الراديكاليون هم أيضا قادة تحرر وطنى، سواء رغبت إسرائيل أو أمريكا فى ذلك أم لم يرغبا، كما أن لديهم شعبية كبيرة وسط الشعب الفلسطينى سواء كانوا من حماس أو فتح، ومع ذلك تحرص السياسة الأمريكية الإسرائيلية على استئصالهم تحت حجج متباينة، واختارت بدلا منهم «حمائم» الشعب الفلسطينى للتحاور معهم دون أن تعطيهم أى شىء. وأصبحت عملية التطور الديمقراطى فى فلسطين وفى باقى الأقطار العربية محكومة بمدى توافق النخب العربية والفلسطينية مع الاستراتيجية الكونية لإدارة أمريكية راحلة فشلت فى كل شىء وتركت وراءها خرابا فى كل مكان. والمؤكد أن الشعب الفلسطينى يحتاج إلى مساهمة «المتشددين» فى العملية السياسية، وفى مسار التسوية، وهذا فى الحقيقة لن يتم إلا عبر بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وامتلاك هذه الفصائل رؤية سياسية للتعامل مع الواقع الفلسطينى والإقليمى والدولى لا تختصرها فقط فى صورة المقاومة المسلحة التى حولتها فى بعض الأحيان إلى غاية وليست مجرد وسيلة من أجل تحقيق الاستقلال. أما العامل الثالث والأخير فهو الفشل العربى الذى لا يستحق تعليقا مفصلا، فيكفى فقط أن نشاهد «فواصل الردح» التى جرت عبر الفضائيات بين مندوبى النظم العربية المختلفة لنعرف كيف أن دماء الشهداء قد هانت على الجميع، لصالح حسابات رخيصة توقفت عند الحفاظ على كراسى الحكام الخالدين فى أماكنهم لا يتحركون. [email protected]