لكى لا أعيد اختراع العجلة ولكى لا أضطر إلى إعادة أوضاع حادثة يعرفها الجميع سأدخل فى الموضوع بشكل مباشر. لا يخفى على أحد مدى تأثير الانترنت الآن فى مصر، ومن هنا كانت فداحة انهيار الكابلات البحرية. وهذا التأثير (والتأثر) لا يقتصر على الاطلاع والمعرفة والقراءة والمتابعة، ولم يعد أيضا مقصوراً على المدونات وما خلقته من فضاء إعلامى مواز للإعلام المطبوع، ولا يقتصر على غرف الدردشة التى تضم الغث والسمين. كانت كل تلك الظواهر حتى وقت قريب هى تأثيرات استخدام الانترنت بكثافة، إلا أن كل ذلك قد أصبح فى عداد المعلومات القديمة الراسخة ولن نضيف أى جديد إذا أعدنا استعراضها. وإذا كان الكثير من الدراسات الجادة قد أثبت أن الانترنت قد ساهم فى تأسيس المواطنة المفترضة والمساواة المفترضة والرأى الحر حتى وصل الأمر إلى تشكيل مجتمع مواز مفترض، فإنه لابد من الانتباه أيضا إلى ظاهرة الغضب الشديد الافتراضي. فمنذ أن بدأت الصحف المستقلة (الإلكترونية بطبيعة الحال) تمتلك مواقع يمكن عبرها قراءة الجريدة وبدأت ظاهرة الغضب تتنامى. فكل مقال أو خبر مسموح بإبداء التعليقات عليه، وهى ظاهرة متبعة فى الصحف كافة المقروءة على الانترنت. والمتوقع أو المفترض أن تقوم هذه التعليقات بكل ما نحفظه فى الكتب: الاشتباك مع الأفكار، البناء عليها، إبداء النقد البناء، تصحيح أو إضافة معلومات، ومن حق القارئ أيضا أن يرفض كل ما جاء فى المقال، فهذا الرفض أو الذم يدخل أيضا فى حرية الرأى والتعبير. إلا أن.. إلا أن التواصل الافتراضى لا يختلف كثيرا عن أشكال التواصل فى الحياة، حيث لم يعد أى شخص بقادر على أن ينهى فكرة أو جملة واحدة دون أن يجد نفسه وقد تورط فى العديد من الأمور الشخصية والمشاجرات الجانبية والإسقاطات النفسية والإحباطات اليومية والتعب الدائم والأزمة الاقتصادية والعمالة للغرب وفلسطين المحتلة والأحوال المتدهورة والنظام المنهار وضياع القيم...الخ. وهذا هو ما يحدث على الإنترنت بالضبط، فتجيء تعليقات القراء على المقالات فى الصحف وكأنها تعلق على مقال آخر، تعليقات تجيب عن أشياء مفترضة، غائبة، لم تذكر. وشيئا فشيئا يفترض القارئ أن كاتب المقال هو العدو الذى ينبغى مواجهته وكشف أمره للعالم وفضح نواياه، فتتحول اللغة إلى مزيج من السخرية والسباب البذيء وكيل الاتهامات. معظم القراء يختارون أسماء وهمية غير حقيقية والقليل منهم يظهر باسمه، وهذا فى حد ذاته دال كثيرا. فهو فعل يذكرنى بأزمنة عدة التليفون السوداء حين كان يمكن أن يرفع أى شخص السماعة ليقول أى شىء ويغلق الخط سريعا (وهى الفكرة التى اعتمدت عليها السينما المصرية كثيرا). حتى إن بعض القراء أحيانا ما يشتبكون فى مشاجرات لفظية نتية بسبب التعليقات على نفس المقال. ويبدو أن القائمين على المواقع قد تملكهم اليأس من تلك التعليقات، أو ربما أن كل التعليقات أصبحت متشابهة فى لغتها بشكل مفارق، فتظهر دائما تلك الجملة الأنيقة «أى تعليق مسىء سيتم حذفه»، وهى مشابهة فى أناقتها لتلك الجملة التى ترصع بها كل المجلات الفكرية أغلفتها الداخلية «المقالات الواردة فى العدد تعبر عن رأى أصحابها» ضمانا للحماية القانونية. السؤال الذى أصبح يلح علىّ كثيراً هو إذا كان القارئ قادراً على إبداء كل هذا الغضب، ولديه كل ذلك المخزون الهائل من الرفض المطلق، لماذا لا يظهر ذلك فى المكان الواقعى أيضا، وليس فقط فى الفضاء الافتراضي. ولماذا قرر القارئ أن يتخفى فى إبداء غضبه ويعلنه تجاه آراء مخالفة؟ وكيف يمكن لهذا القارئ أن ينعى حال البلد وغياب الديمقراطية والشفافية وانتهاك حقوق الإنسان وهو أول المساهمين فى ذلك دون قصد على المجال الافتراضي؟ ولماذا لم يفكر أى قارئ فى إمكانية تحويل دفة الغضب إلى الاتجاه المطلوب؟ ولماذا لم يحاول تفريغ هذه الشحنة بشكل إيجابى بدلا من ذلك الشكل السلبى الذى ينتهى فى أغلب الأحوال إلى إهانة الآخر؟ أسئلة لها العديد من الأجوبة والتفسيرات ليس مجالها هذا المقال، ولا أى مقال آخر، لأنها تتعلق بطبيعة نفسية معينة. لكن السؤال التالى الذى أصبح ملحا على عقلى هو إن كان هذا التواصل عبر الإنترنت (وهى كلمة غير دقيقة فى التعبير عما هو حادث) قد دفع بنا خطوة إلى الأمام أم قيدنا فى أماكننا مكتفين بالغضب الافتراضي؟