مع بداية اليوم الأول من الأسبوع الماضى، قامت إسرائيل بأعنف حملاتها الجوية على قطاع غزة منذ عام 1967، ستون طائرة مغيرة استباحت سماء القطاع وشكلت سحابة من الرعب، أمطرت الموت فوق الطرق والجسور، وعلى جميع المحاور والأرجاء الممتدة من رفح فى أقصى الجنوب، إلى بيت حانون فى أقصى الشمال. وتواصلت العمليات العسكرية الإسرائيلية فى الأيام التالية، لتخلف ما يقرب من أربعمائة شهيد وألفى جريح، وتخرب المرافق الأمنية والحيوية وتقيم حفلات إعدام جماعية تشهد على عمليات الدعارة العسكرية التى تمارسها إسرائيل، المغتصبة لإرادة شعب أعزل، والدعارة السياسية المبنية على المناورات الرخيصة، لتغييب ضمير العالم الذى لم يعد له ضمير. وكالعادة ينسى الإسرائيليون خلافاتهم، وتلتف كل الأحزاب السياسية والدينية، بما فيها اليمين واليمين المتطرف، حول الحكومة، وتتوحد الكلمة، وكالعادة أيضاً تتجلى خيبة الأنظمة العربية التى لم تعد تقدر إلا على الاتحاد فى الخلاف والكراهية، وسباب بعضها البعض حتى بحت الأصوات من كثرة الصراخ، ومات أمل العرب فى كسب احترام العالم، ومع كل انطلاقة لصواريخ الغدر الإسرائيلية تنطلق صواريخ الاتهامات العربية العربية، التى عكست هذه المرة منتهى التناقض فى المواقف، فهناك دول عربية لا علاقة لها بما يحدث مطلقاً، وثانية تحاول عرقلة عقد مؤتمر قمة، وثالثة تدعو بحماسة لعقد قمة عربية عاجلة، هناك دول متهمة بالتواطؤ مع إسرائيل، وأخرى بإهدار دم الغزيين، هناك مشاورات واجتماعات تمخضت عنها بيانات لا تستحق ما أنفق عليها من وقت وجهد، مثل البيان الختامى لمجلس التعاون الخليجى، وبيان وزراء خارجية المغرب العربى، والبيان الختامى لوزراء الخارجية العرب عموماً، وهناك بيانات ساخنة وملتهبة وصلت إلى حد تحريض بعض الشعوب على أنظمتها، ونسى الجميع فى زحمة التجاذبات والتنافرات أن السبب الحقيقى فى كل ما يحدث للعرب هو (إسرائيل)، فبظهورها للوجود ينقسم العالم العربى إلى شطرين، وتتنوع التيارات السياسية بين راديكاليين ومحافظين - بين مفاوضين ومقاومين - بين معتدلين وداعمين للإرهاب. ونسى الجميع أن إسرائيل ليست فى حاجة لذرائع كى ترتكب المذابح والمجازر بداية من دير ياسين، ومروراً بمذبحة قفر قاسم، بحر البقر، المسجد الأقصى، قانا، جنين، وأخيراً مذبحة السبت الأسود. نسى الجميع أن إسرائيل لا تملك خياراً واحداً بل خيارات متعددة للتعامل مع العرب، خيارات متعددة للعب على أوتار المصالح والمناورة وتحقيق كل ما تطمح إليه، فالذين حاربتهم بالأمس، فاوضتهم اليوم، والذين أظهرت عداءها لهم علنا دعمتهم سرا، والشواهد على تعدد الخيارات الإسرائيلية ومدى قدرتها على المراوغة كثيرة منها: - كانت فتح العدو الأول لإسرائيل بوصفها شرارة المقاومة المسلحة عام 1965، واليوم تعتبر فتح الشريك النموذجى لإسرائيل فى ظل معاهدة أسلو وخارطة الطريق وأنابوليس. - وقعت إسرائيل معاهدة سلام مع مصر حتى ضمنت حيادها، ومع ذلك مستمرة فى حصار الغزيين وتضييق الخناق عليهم، لعلمها بأن نتيجة هذا الحصار واحدة من اثنتين، إما أن تدفع أهل غزة للهروب إلى سيناء فراراً من جحيم الحرب والحصار ويتحقق حلم الصهاينة فى جعل سيناء الوطن الجديد لهم بدلاً من قطاع غزة، وإما لزيادة التوترات على الحدود المصرية الفلسطينية ويتحول الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، إلى صراع مصرى فلسطينى. - رفضت إسرائيل المفاوضات مع سوريا ما لم تتنازل الأخيرة عن دعمها للإرهاب، وفجأة تعلن إسرائيل استعدادها للتفاوض مع سوريا برعاية الأتراك، وتجرى معهم 4 جولات فى هذا الخصوص، وفى الخامسة، وبالتحديد يوم الاثنين قبل الماضى، يحصل هنية من رئيس الوزراء التركى على تطمينات بشأن إعادة تفعيل التهدئة، وبعد نصف ساعة يلتقى أولمرت مرة أخرى رئيس الوزراء التركى مدة 5 ساعات متصلة من أجل تحويل المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل إلى مفاوضات مباشرة، ويتخيل العالم أن الشرق الأوسط على مشارف حلول قد تعيد بعض الاستقرار إلى المنطقة، ويفاجأ الأتراك مثلما فوجئ المصريون بعد زيارة تسيبى ليفنى للقاهرة، بأن إسرائيل كانت تفاوض فى اتجاه وتخطط فى اتجاه آخر، تقنع المصريين والأتراك بأنها لن تحارب، ثم تطلق العنان لصواريخها كى تكون لها الكلمة الفصل، لأن إسرائيل لا يهمها إحراج حلفائها بقدر توظيف كل الخيارات المناسبة فى الوقت المناسب، حسبما تقتضيه مصالحها وتفرضه طبيعة المرحلة. إسرائيل التى جعلت نواة دولتها شراء أراضى الفلسطينيين مستعدة لبيع العرب جميعاً حفاظاً على استقرارها وحلمها التوراتى (أرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات)، إسرائيل التى بدأت كجيش ثم انتهت إلى دولة، كيان ضد الطبيعة والقانون، لا ينتج إلا شياطين مستعدة فى أى لحظة لارتداء ثوب الملائكة أو بالعكس. إسرائيل التى اعتدت، ولاتزال تعتدى، وسوف تعتدى، لا يمكن التعامل معها بلغة واحدة فلابد للمراوغة من مراوغة، ولابد للتعنت والتجاوز من التعنت والتجاوز، فليس هناك سلام على طول الخط، أو حرب على طول الخط، لأن مثل هذا الثبات هو مفتاح الخلاف العربى العربى العميق، والإصرار على السير فى اتجاه واحد سيجعل المواقف كلها منحصرة فى هذا الاتجاه أو ذاك، وأبعد ما تكون عن مصلحة العرب. خيار واحد مع إسرائيل لا يكفى، وعلينا أن نكون دائماً مستعدين لسلام قابل للحرب، أو حرب كجسر للسلام. [email protected]