أين الجديد؟.. مجزرة إسرائيلية بشعة فى قطاع غزة، أسقطت مئات الشهداء والمصابين؟ ليست المجزرة الأولى، والأرجح أنها لن تكون الأخيرة.. منذ خمسين عاماً وهذا الكيان العنصرى المتوحش يرتكب المجازر ويقتل المدنيين؟ تنديد وشجب واستنكار رسمى.. ومظاهرات فى الشارع العربى تتضامن مع غزة وتدين إسرائيل وتندد بالتخاذل العربى وتحمل الحكام العرب مسؤولية حمامات الدم.. لا جديد، والمشهد ذاته يتكرر كلما أرادت إسرائيل. الجديد أن الشارع المأزوم والمجروح من مشاهد جثث الشهداء والضحايا المدنيين والأطفال المذعورين، والمتظاهرين الذين تغلى صدورهم من الغضب، والمراهقين الذين تجيش مشاعرهم بالرغبة فى الثأر والانتقام، يدينون الجميع، ويوجهون اتهاماتهم للجميع، بدءاً من إسرائيل المعتدية وانتهاء بالحكام العرب المتخاذلين، لكن أحداً منهم لا يلوم حماس ولا يقترب نحوها بالنقد ولا يتخيل أن أداء حكومة «هنية»، التى تسيطر على قطاع غزة يمكن أن يكون أحد أسباب المجزرة. دعنى أقل لك إن هذا هو ما نجحت فيه حماس، وهذا هو المكسب السياسى الوحيد الذى حققته «حكومة هنية» على حساب جثث الشهداء ودموع اليتامى والأرامل. خسر هنيه والذين معه المعركة على الأرض وربحوا الشارع «العاطفى إلى درجة السذاجة»، وبدا أن المكسب العاطفى أهم ألف مرة من حياة الرعية وأمنهم، والبقاء فى السلطة أهم ألف مرة من مئات الشهداء. دعك من الحديث عن المقاومة ومشروعية المقاومة ودور حماس فى قيادتها، فلابد أن تدرك أن تلك الحركة منذ قبلت خوض الانتخابات، وجربت طعم الحكم وشهوته، لم يعد مشروعها تحرير فلسطين أو استعادة الأرض من البحر إلى النهر وغيرها من الأهداف والمشروعات العاطفية التى تدغدغ مشاعر الجماهير، وصار مشروعها الأسمى هو البقاء فى السلطة وعدم التنازل عن الحكم، حتى لو كانت فاتورة ذلك تكريس انقسام وتفتيت لم يشهده الفلسطينيون من قبل، وتكريس انفصال تجد سعادة فى بقائه على ما هو عليه ضامناً لها حكم غزة. أنهت تجربة «إمارة غزة» كل الأحاديث الرومانسية عن المقاومة..وصارت تلك المقاومة إحدى وسائل التسويق التى تهدف إلى الحفاظ على المغنم السياسى، ومنذ صار المغنم السياسى هدفاً وغاية تبررها الوسيلة، كانت الوسيلة هى إجهاض كل الجهود لمنع نشوب الحرب، وإفشال كل المحاولات لإعادة الوحدة الفلسطينية. الذين أحرقوا غزة ليسوا فقط الإسرائيليين بطائراتهم ومدرعاتهم، وليسوا فقط الحكام العرب بتخاذلهم، وليست فقط مصر بقبولها تراجع دورها الإقليمى إلى الحدود الدنيا.. الذين أحرقوا غزة هم أولئك الذين اختطفوها وانفردوا بها ونصبوا أنفسهم أمراء على «إمارة محاصرة على أرض محتلة فى وطن مفترض»، وتولوا مسؤولية شعبها، وكان من المفترض أن يراعوا أمان هذا الشعب وأمنه. الذين أحرقوا غزة هم أولئك المراهقون سياسياً، والمدججون بكل ما يملكه العرب من خطب حنجورية، الذين أفشلوا الحوار وتطاولوا على الكبار، الذين رفضوا النصيحة وقامروا بشعبهم، وأهدروا مصالحه فى صراع سياسى رخيص، لا يهتم بقضية ولا بأرض، السلطة فيه أولاً وقبل كل شىء، حتى قبل تحرير الأرض التى سيقام عليها الوطن..سلطة فى وطن محتل.. سلطة على بعض أرض، وشعب سقط فريسة فساد فى رام الله، وانتهازية فى غزة، ووحشية وجبروت عنصرى فى تل أبيب. الذين أحرقوا غزة هم أولئك المتعنترون الذين أنهوا التهدئة ورفضوا تجديدها، وأحبطوا جهود تمديدها، وقرعوا طبول الحرب دون أن تكون لديهم القدرة على مواجهة أعبائها، الذين اتخذوا قراراً سياسياً فى لحظة مراهقة سلطوية، دون تقدير لموقف أو اكتراث بعواقب، أو تخطيط لردود فعل، وعلى طريقة «ما تقدرش» فردوا صدورهم، وقدموا مئات الشهداء فى معركة كان يمكن تجنبها بسهولة. أنت مصدوم مما تقرأ، العاطفة تأخذك فى اتجاه معاكس، لكننى فقط أذكرك أن العاطفة كانت تجرفنا فى الفترة من 18 مايو 1967، عندما طلبت مصر سحب القوات الدولية من الحدود مروراً بيوم 22 مايو حين أغلقت خليج العقبة فى اختيار واضح لخيار الحرب، حتى كانت الحرب وكانت نكسة 5 يونيو، عند اتخاذ القرارات الممهدة للحرب كنا عاطفياً نهتف ونهلل أننا سنرمى إسرائيل فى البحر.. وبعد سنوات وسنوات تعلمنا أن الحرب يجب ألا تكون فريضة غائبة، لكنها فى الوقت نفسه ليست لعبة أو نزهة أو مغامرة، ومن يتخذ قرار خوض معركة لابد أن يملك القدرة على ضمان الحد الأدنى من الحماية لشعبه أولاً. حاول ألا تستسلم لضغط الشارع، ولا تسايره، وفتش عن الحقيقة واسأل نفسك. هل مازالت حماس حركة مقاومة؟ شخصياً لا أعتقد ذلك منذ قبلت بإحدى آليات «أوسلو» وخاضت الانتخابات وشكلت حكومة تلو أخرى فصارت جزءاً من السلطة وطرفاً فى الصراع عليها، وصار البقاء فى السلطة هدفها الأسمى. المسألة بسيطة «المقاومة هدفها تحرير الأرض، والسياسة هدفها السلطة»، وحماس أجهضت الأولى ونجحت فى الثانية بامتياز، وسبقتها «سلطة أبومازن» على الدرب نفسه وأجادت. اسأل نفسك سؤالاً آخر: هل مازالت إسرائيل هى الخطر الأكبر على الفلسطينيين رغم مذابحها وبربريتها؟ شخصياً لا أرى خطراً على الشعب الفلسطينى أفدح وأخطر من هذا التفتت والانقسام والصراع على الحديث باسمه. لا أرى خطراً أفدح من غياب الهدف. كلنا نعرف ما تريده إسرائيل، لكن لا أحد يعرف ما يريده حكام رام الله وحكام غزة غير البقاء فى السلطة، وهى أخطار يهون أمامها خطر إسرائيل وقسوتها. الذين أحرقوا غزة هم أولئك الذين فعلوا كل هذا، هؤلاء من يستحق اللوم، وهم إما أحرقوها أو شاركوا فى تلك الجريمة بنصيب وافر، وإعفاؤهم من المسؤولية استخفاف بالعقول. واليوم لم يعد هناك حل سوى وقف العدوان فوراً وبأى وسيلة..وبعدها محاسبة حماس وعباس والتخلص من كليهما.. والبحث عن شرعية جديدة بوجوه أنظف ومشروع وطنى أوضح، وأياد ناصعة لم تتورط فى فساد ولا إفساد، وألسنة صادقة لم تتورط فى خداع أو انتهازية.. ووقتها فقط سيهون أمر إسرائيل. [email protected]