يبدو أننا من كثرة ما وهبنا اللّه من كنوز ومقتنيات قديمة فإن التصرف فيها بالبيع أو الإهمال أصبح أمرًا عاديًا لكنه أمر غير عادى، وتصرف ممنوع فى كثير من البلدان التى تنبهت إلى قيمة ما تملك كدولة أو كمؤسسات أو هيئات أو أفراد، فسنت القوانين وأرست القواعد التى تحكم ملكية الدولة لمقتنياتها على اعتبار أنها تراث تتوارثه الأجيال ويدخل فى عداد الثروة القومية، لذا فإن ما نسمع ونقرأ عنه من حين لآخر بشأن تسرب لوحات فنية أو مجوهرات قديمة أو مخطوطات أثرية أو مستندات تاريخية، عبر منافذ التهريب من المطارات والموانئ، أصبح أمرًا مكررًا يشير إلى استنفاد الثروة عن طريق السرقة، دون أن تصدر تشريعات واضحة تجرم هذا الفعل وتعاقب مرتكبيه بالعقوبة المناسبة. ومن الغريب أنه قد وقر فى ذهن الكثيرين من المواطنين المصريين أن ما يملكونه من مقتنيات قديمة، تم توارثها عبر أجيال وأجيال فى الأسرة الواحدة، إنما هو ملك خاص لهم يجوز لهم التصرف فيه بالبيع أو الإهداء حتى ولو كان ذلك للأجانب، يحدث ذلك بالنسبة للمجوهرات القديمة التى قد يبلغ عمرها مئات السنين، ويحدث بالنسبة للأوانى الفضية، والمشغولات الذهبية، والكتب الموغلة فى القدم والمسطرة بخط اليد، وهناك نسخ من القرآن الكريم تتوارثها عائلات فى مصر وتنقلها من جيل لآخر، مصاحف بخطوط من الذهب والفضة، وأخرى مساحتها لا تزيد على سنتيمترات، مخطوطات أثرية ملونة، نسخ من مجلات وجرائد يعود تاريخها إلى أكثر من مائة سنة، خطابات شخصية تؤرخ لعلاقات وأحداث قديمة ترسم صورة للحياة وللعلاقات السائدة وقتها فى المجتمع المصرى. وقر هذا التفكير فى نفوس كثيرين، فيما يتعلق بممتلكاتهم ومقتنياتهم القديمة ووجدوا من يعرضون شراءها بأثمان تعتبر بخسة، قياسًا إلى قيمتها الحقيقية إذا ما استشعر من يقوم بالشراء أن صاحب المقتنيات لا يقدرها حق قدرها كما وجدوا أيضًا من يعرضون شراءها بأثمان باهظة تغرى صاحبها على البيع، ونظرة إلى المجلات والجرائد المصرية التى تعلن عن طلب شراء أشياء قديمة وأثرية، قد تعطى لنا صورة لما يحدث حولنا - عينى عينك - كل يوم وكل أسبوع مما يعد استنزافًا للثروة وتفريغًا لما نملكه ونتوارثه كأفراد وكمجتمع، طلب دائم للميداليات والنياشين الفضة أو الذهب أو البرونز المصرية أو المهداة من جهات أجنبية ويفضل أن يرجع تاريخها إلى أكثر من مائة سنة ماضية، هناك طلب على البدل العسكرية المشغولة بخطوط السيرما، على أطقم الفضة القديمة، وعلب السجائر المشغولة بالمينا، والمباخر المصرية القديمة أو التركية، والسبح المصنوعة بالأحجار الكريمة أو شبه الكريمة، مكاحل العين وزجاجات العطر الشرقية المزخرفة برسم اليد، الساعات القديمة جدًا، الخواتم المرصعة بالألماس والمصنوعة من الفضة، البروشات والعقود وما كان يسمى بالبانتنطيف وأساور الثعابين المرصعة بالألماس والفلمنك، يطلب راغبو الشراء أيضًا أو وسطاء تجارة المقتنيات القديمة اللوحات الفنية التى أبدعها فنانون مصريون مشهورون من الرواد - هكذا يحددونها - وكذلك لوحات الخط العربى، يطلبون شراء الصور الفوتوغرافية - الأبيض والأسود - بشكل خاص التى تحوى مناظر قديمة التقطت للقاهرة أو لغيرها من المدن والقرى المصرية، ولأفراد أسر قديمة، لرجال ونساء وأطفال أيًا كانت شخصياتهم فهى تحمل عبق الماضى ونماذج شخصياته، يطلبون الكتب وطوابع البريد ويدفعون لقاءها مبالغ كبيرة، الأوانى الزجاجية العتيقة، والنحاسية، أمشاط الخشب والخزف، والسجاجيد اليدوية القديمة. من يتتبع تلك الإعلانات يكد يذهل من فرط ما يطلبون شراءه، أو الحصول عليه، يكفى أن ترفع سماعة التليفون حتى يأتى إليك المشترى أو الوسيط مهرولاً وجيوبه مكدسة بالثمن ومستعدة للدفع الفورى، فإذا سألت عن مصيرها سيجيبك أنها لنفسه ومن أجل الهواية فقط، لكنك وبسهولة يمكنك أن تتبين أغراضه الحقيقية بشأن إعادة بيعها لآخرين غالبًا من غير المصريين وبغرض تسريب معظمها إلى خارج البلاد، فإذا ما حاولت أن تنبه أحد أصدقائك أو أقاربك إلى ضرورة رفض التخلى عن هذه الممتلكات القيمة أو بيعها لجهة مصرية، تكون الإجابة الدامغة أين هى هذه الجهة المصرية التى تنبهت لمثل هذه المقتنيات وأرادت الاحتفاظ بها وصيانتها ورعايتها؟ دلونا عليها ونحن نذهب إليها وقد نتنازل عن جانب من الثمن من أجل خاطرها. وحتى تنشأ هذه الجهة المصرية التى تكون مهمتها الحفاظ على المقتنيات المصرية داخل مصر، كواجب قومى وتراث مادى يتراكم عبر السنين وحق لأجيال قادمة، سيتفاقم يومًا بعد يوم وأمام عيوننا نزيف بيع وتسريب وتهريب المقتنيات المصرية التى لن نعوضها. [email protected]