«العلم والديمقراطية»، كان شعار حركة الرابع من مايو 1919 الصينية.. وكان السبب المباشر لاندلاع تلك الانتفاضه هو منح اتفاقية «فرساى»، التى فرضها الحلفاء على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، أراضى صينية، كانت تحتلها الأخيره لليابان، بدلا من إعادتها للصين.. وهناك تشابه، على أكثر من مستوى، بين أسباب اندلاع ثورة 1919 هناك ونظيرتها عندنا، حيث كان أهم أسباب الأخيرة هو الفشل فى الحصول على الاستقلال فى أعقاب نفس الحرب المذكورة. أما السبب الأعمق، فكان فى تلاقى اليقين الصينى بحتمية التخلص من الكم الهائل من الأفكار المكبلة، الموروثة عن تاريخ طويل - فى سبيل النهوض والمنافسة فى العالم الحديث وتفادى التعرض للمزيد من المذلة - مع جوهر فكر حركة 1919 المصرية، والذى مثله عمليا منظر تمثال نهضة مصر بجوار مدخل الجامعة.. لكن، للأسف، بعد كل الزمن الذى مضى، لم تتحقق آمال الشعبين العريقين فى «العلم والديمقراطية». قد يبدو للكثيرين، نظرا للتقدم الاقتصادى والتكنولوجى والعروض الأوليمبية المبهرة، أن الصين قد أنجزت الكثير، على الأقل فى المجال العلمى. لكن «العلم» الذى طالبت به حركة الرابع من مايو لم يكن بالدرجة الأولى هو المتمثل فى إتقان وبيع تطبيقات تكنولوجية منقولة، لا تعبر عن ابتكار فكرى أو شجاعة ذهنية تذكر، إنما المنهج والمنظوم الفكرى الذى يؤثر- كما شرحت فى المقال السابق- على رؤية الإنسان للعالم وتنظيمه وتصوره له، وينعكس على وضعه الاجتماعى والنظام السياسى الذى يتبناه. إذا كانت هذه هى المقاييس فعلا، فلا مفر من اعتبار أن الصين ما زال أمامها الطريق طويلا. وهذا الإحساس العام تدعمه الأرقام: فالصين، بالنسبه لحجمها الهائل، ما زالت تعانى من ضعف فى الإنتاج رفيع المستوى، الخلاق المبدع، فى مجال العلوم الأساسية.. وقد حصل أربعة فقط من الصينيين على جوائز نوبل (ثلاثة فى الفيزياء وواحدة فى الأدب)، وجميعهم أقاموا وأبدعوا بالخارج! أما «المنهج العلمى»، المسلح بنظريات ماركس عن تطور التاريخ، الذى تبناه الحزب الشيوعى، والذى أدى فى السياق الصينى لسلسلة طويلة من المآسى، المتمثلة فى حملات لا عقلانية مثل «القفزة الكبيرة للأمام» و«الثورة الثقافية»، فلم يكن كذلك على الإطلاق.. لأنه، بكل بساطة، لا يمكن فهم حركة التاريخ أو تطور المجتمعات بالكامل، وادعاء غير ذلك هو فى الواقع أقرب إلى الشعوذة، وهو أشبه بادعاء الأصوليين حيازتهم «الحل» الشامل لكل مشاكل المجتمع، «مرة واحدة» عن طريق قراءة خاصة متطرفة للنص الدينى.. فالمنهج العلمى الأصيل لا يتجسد، فى سياقه السياسى، فى تتبع أهداف سرابية مستحيلة، ناتجة عن مزاعم مغرورة، تدّعى فهم حركة التاريخ وطبيعة المجتمع المثالى مسبقا، إنما فى تنظيم المجتمع بشكل يسمح بممارسة الفكر والحوار الحر والتجربة الحذرة، لينتج عنها فهم وتحسين تدريجى لواقع الإنسان. ولقد لخص ذلك عالم الفيزياء والنشط السياسى «زو ليانجليينج»، عندما سألته ال«نيويورك تايمز» (22/8/2006) عن معنى تبنى قادة الصين، المعلن، لشعار المنهج العلمى، بقوله: «إنهم يستخدمونه فقط لخدمة أنفسهم».. أما عن المنهج العلمى الحقيقى فأستشهد بمقولة أينشتاين التالية: «إن الدولة مصنوعة من أجل الإنسان، وليس العكس. إنى أعتبر أن المسؤولية الأولى للدولة هى الدفاع عن الفرد وإعطاؤه فرصة النضج كشخصية مبدعة». وهذا ما فشلت فيه الصين حتى الآن، رغم إنجازاتها الاقتصادية والتكنولوجية المبهرة سطحياً. وعكس هذا الوضع البيان الذى صدر مؤخراً عن أكثر من ثلاث مائة مثقف صينى (والمترجم على صفحة ال«نيويورك ريفيو» الإلكترونية) بمناسبة الذكرى الستين للإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الذى جاء فيه: «النخبة الحاكمة تستمر فى التشبث بالسلطة المتغطرسة وتحارب أى خطوة نحو التغيير السياسى.. والنتيجة الخانقة هى الفساد المتفشى وضعف حقوق الإنسان، وتهافت الأخلاقيات العامة، ورأسمالية المحسوبية، وتزايد الفجوات بين الأثرياء والفقراء».. أخيرا، يرى موقعو ما يسمى بميثاق 80 - تشبيها بميثاق 77، الذى وقع عليه مثقفون من تشيكوسلوفاكيا (منهم فاكلاف هافل) تنديداً بالنظام الشيوعى هناك حينذاك - أن الوضع الحالى فى الصين ينذر ب«صراع عنيف ذى حجم كارثى». لذلك، فإن «تهافت النظام الحالى وصل لنقطة لا يمكن معها اعتبار التغيير من الكماليات». فليكن فى ذلك عبرة لمن يتصور أن هناك استقراراً حقيقياً فى ظل النمو الاقتصادى فى غياب الإصلاح السياسى. [email protected]