تعالوا نفترض أن سلعة من السلع كانت تباع فى القاهرة فى أغسطس الماضى - مثلاً - أى قبل اندلاع الأزمة المالية العالمية، بمائة جنيه، وكانت مثيلتها تباع فى لندن بعشرة جنيهات إسترلينى، أى بما يعادل 120 جنيهاً.. ولكن.. بعد اشتعال الأزمة اختلف الأمر بالنسبة للسلعتين مقارنة ببعضهما البعض.. لقد انخفض سعر السلعة ذاتها فى لندن إلى ثمانية جنيهات فصارت تساوى 96 جنيهاً مصرياً، وكان انخفاض سعرها بتأثير من تراجع قيمة الإسترلينى نفسه بعد استمرار الأزمة، ثم بتأثير من قرار البنك المركزى الإنجليزى خفض الفائدة على الإسترلينى، فى الوقت الذى بقى فيه سعر السلعة المصرية على حاله لأن قيمة الجنيه المصرى أمام باقى العملات لم تنخفض، ولأن سعر الفائدة عليه ظل كما هو لم يتغير! فما معنى هذا كله؟!.. معناه بصورة من الصور، أن السلعة الوطنية أصبح موقفها ضعيفاً فى المنافسة أمام سائر السلع التى كان سعرها مساوياً لها فى بداية الأزمة، ثم انخفض ومعناه أيضاً أن بقاء سعر السلعة الوطنية، عند مستواه الحالى بفعل الاحتفاظ بنسبة الفائدة على الجنيه كما هى فيه تهديد للسلعة ذاتها، وفيه أيضاً آثار سلبية على مستهلكيها داخل الوطن! والأمر عندئذ، لا يتوقف عند حدود السلعة فقط وإنما يمتد إلى الخدمة أيضاً فأى شركة سياحية مثلاً سوف تتجه بالضرورة إلى تحميل أسعار الفائدة على قروضها من البنوك، على سعر الخدمة التى تقدمها للسياح، بما يرفع السعر مقارنة بغيره فى دول مجاورة، فيقارن السائح بطبيعته ويتجه إلى الدول الأقل سعراً، فنخسر نحن على كل مستوى.. وهكذا.. وهكذا.. مع كل مستثمر أو رجل أعمال، يريد أن يعمل بقرض من بنك ثم يكتشف أن سعر الفائدة يقف عائقاً أمامه، فيتردد لأن ما سوف يجنيه من عائد، إذا قرر أن يقترض ويعمل ويتيح فرص عمل أقل مما سوف يكون عليه أن يسدده للبنك فى صورة فوائد عما كان قد اقترضه من قبل! هذا مجرد اجتهاد، وهو من جانبى يمثل اجتهاد العامة إذا صح التعبير، وقد يكون صائباً وقد يكون مخطئاً وإذا كنت قد طالبت البنك المركزى عدة مرات بأن يستجيب لطلب الحكومة، بخفض أسعار الفائدة، فالطلب من ناحيتى، يقوم على هذا الاجتهاد.. ومع ذلك هناك اجتهاد آخر لأهل الاختصاص وأهل التخصص وأهل العلم فى الموضوع. وكنت منذ بدء الأزمة ومنذ بدء هذه الحالة من الشد والجذب، بين الحكومة من جانب وبين محافظ البنك المركزى من جانب آخر، دائم النقاش فى تفاصيل الأمر مع كثيرين أولهم الأستاذ محمود عبدالعزيز، رئيس البنك الأهلى السابق.. والرجل، فى رؤيته للمسألة على بعضها ينحاز انحيازاً مطلقاً إلى موقف محافظ البنك المركزى لأسباب يراها موضوعية تماماً، ومنها أن بقاء معدل التضخم عند نسبته الحالية وهى فى حدود 21% تقريباً، يمنع المحافظ من الموافقة على خفض سعر الفائدة لأن موافقته على الخفض، معناها أن يتحمل 60% من المصريين. وهم محدودو الدخل، ومتوسو الحال، الآثار الجانبية للقرار وإذا كان هناك مواطن عادى يدخر مائة جنيه مثلاً بفائدة 11% فى أى بنك فإن خفض سعر الفائدة مع بقاء نسبة التضخم كما هى معناه بشكل مباشر أن يخسر هذا المواطن عشرة جنيهات من المائة جنيه وهذه الجنيهات العشرة، هى الفارق ما بين معدل الفائدة 11% ونسبة التضخم 21%! ومثل هذه الخسارة هو ما يسعى المحافظ بتمسكه بموقفه إلى التقليل من قيمتها.. ولكن الحكومة مصممة على خفض سعر الفائدة وتمارس ضغوطاً على المحافظ وهى ضغوط انتقلت مؤخراً كما يرى محمود عبدالعزيز من مرحلة الضغط إلى مرحلة التهديد للمحافظ، أو ما يشبه التهديد، وهو ما لا يجوز أبداً فى تقديره.. وما لم يكن المجلس الأعلى للسياسة النقدية الذى نشأ مؤخراً برئاسة رئيس الوزراء، حاضراً بقوة، فى مثل هذه الأزمة، فإلغاؤه أفضل.. وإلا.. فمتى يجتمع وينسق، إذا كانت أزمة بهذا الحجم لا تدعوه إلى الاجتماع، ولا تغريه بالتنسيق؟!