توفى مدبولى يوم الجمعة، ولم يكن من الغريب أن تنشر «الأهرام» خبر وفاته فى الصفحة الأولى من عدد السبت مع صورته، فهو من دون مبالغة من رموز الثقافة المصرية رغم أنه ليس كاتباً ولا مترجماً ولا أديباً ولا شاعراً ولا عالماً ولا سياسياً، ولكن تأثيره كان كبيراً على كل الكتاب والشعراء والأدباء والمترجمين والعلماء والسياسيين طوال ما يقرب من نصف قرن، سواء المصريين منهم أم العرب من شرق العالم العربى ومغربه، ولا يكاد يوجد مثقف عربى من مصر أو خارجها لا يعرفه شخصياً، أو بالاسم على الأقل. فى جلساتنا مع أستاذنا محمد مندور فى حديقة معهد المسرح بالزمالك أثناء سنوات الدراسة (1961 - 1965) كان -رحمه الله- يتحدث على سجيته، بعيداً عن المحاضرات الأكاديمية، ويقدم لنا خلاصة خبرة عميقة، تتجاوز كل المناهج، وأذكر جيداً من بين ما قاله تشبيهاًَ رائعاً وبليغاً من واقع أصوله الريفية، عن الفنان الذى يتم إعداده وتدريبه فى المعاهد والكليات، مثلما يزرع الفلاح الملوخية، والفنان الذى يأتى مثل الملوخية «الشيطانى» التى تفوق الملوخية المزروعة فى كل شىء حتى فى شكل أوراقها الكبيرة اللامعة، وقد كان مدبولى فى علاقته بالكتاب، والذى كان ولايزال وسوف يظل هو أساس الثقافة، مثل تلك الملوخية الشيطانى، فهو لم يتعلم فى المدارس، ولم يتخرج فى الجامعات، ولكنه عرف قيمة الكتاب من خلال الجينات الحضارية المصرية الفذة، والتى تجعل المصرى يصرف جل ما يملك على تعليم أولاده، بل يستدين من أجل تعليمهم. عرفت مدبولى أثناء سنوات الدراسة أيضاً عندما قدمنى إليه العزيز الذى فقدناه رجاء النقاش، ولم يكن مدبولى آنذاك سوى «كشك مدبولى» فى ميدان سليمان باشا سابقاً «طلعت حرب حالياً» قبل أن يشترى الدكان الذى يقع خلف الكشك مباشرة، ويتوسع ويصبح من كبار الموزعين والناشرين، ووجدت أن لديه دفتراً تحمل كل صفحة فيه اسم أحد الأشخاص ومديونية كل منهم، وطلب منه رجاء النقاش أن يخصص لى إحدى الصفحات، وأنه سيكون الضامن لى إذا لم أسدد. اندهشت كثيراً فقد كنت أسمع عن وجود مثل هذه الدفاتر عند البقالين فى أحياء القاهرة الفقيرة، ولكن ليس مع باعة الكتب، وسألت مدبولى ولكن ما هو الضمان الحقيقى لتسديد مديونية شراء الكتب، وكان رده أن من يستدين لشراء الكتب لا يمكن أن يتهرب من دفع ديونه، والاستثناء يؤكد القاعدة. وقد كانت «معركة» إزالة كشك مدبولى من معارك الحرية بكل معنى الكلمة، والملف الصحفى بما نشر عنها لا يقل فى حجمه عن حجم ملف أكبر معارك الحرية فى مصر المعاصرة، فكل كتاب عند مدبولى كان لابد أن يصل إلى القارئ الذى يريد قراءته، فهو ليبرالى بالفطرة، أو تعبير عن أن الإنسان ليبرالى بالفطرة. [email protected]