قبل أن يخرج من بيته التقط سماعة الهاتف وتحدث إلى بناته الأربع ليؤكد حضورهن بصحبة أطفالهن أول أيام العيد، وبعدها نظر إلى ولده وطلب منه أن يقضى معه هو وحفيده، الذى لم يكمل عامه الأول بعد، ثانى أيام العيد فى أسيوط، حيث بلد زوجته لأن أهلها ألحوا عليه كثيراً فى أن يروا هذا الطفل الذى لم يعد اسمه هو العامل المشترك الوحيد بينه وبين جده، لكنه بشهادة الجميع يشبهه فى كثير من الخصال، وقبل أن يصل إلى باب الشقة تذكر أن زوجته كانت طلبت منه تغييرأنبوبة البوتاجاز فهرول إليها سريعاً، ليخبرها أنه لم ينس ما طلبته منه وأنه سيذهب ليأتى ببائع الأنابيب، وما إن اطمأن إلى أن زوجته لم تعد فى حاجة إلى شىء، توجه إلى مكتب التأمينات والمعاشات بالمطبعة لصرف معاش الأجر المتغير، لكنه فوجئ بطوابير لم يعد قادراً على حصرها، وتذكر حينها كرهه للزحام وضيق التنفس اللذين نتج عما إصابته بحساسية فى الصدر، فكر ملياً فى أن يعود أدراجه من جديد، لكنه عاد ليتذكر أن العيد على الأبواب، وعليه أن يكون جداً كريماً هذا العام، فقرر أن يبقى فى مكانه، ومضت ساعات طويلة شعر بعدها بضيق شديد فى صدره، فتحسس جيوبه بحثاً عن البخاخة التى لا تفارقه، لكنه لم يجدها وبدأ يحاول الاستغاثة بمن حوله، لكن الأصوات كانت عالية والجميع يحاول الاقتراب من شباك صرف المعاشات دون أن يلتفت لمن حوله، وبدأ الضيق يزداد فى جنبات صدره والأصوات تعلو من حوله، وفجأة سقط على الأرض مفارقاً الحياة ليصبح بدر الدين محمد رضوان سالم أول ضحية فى طابور المعاشات. «ما كناش عاوزينهم القرشين اللى خلوه يروح وما يرجعش»، هذه الكلمات ظلت تتردد على لسان الحاجة فضيلة محمود مطاوع محاولة أن تنعى بها زوجها الذى شاركها ما يزيد على 45 عاماً من حياتها أنجبت خلالها أبناءها الستة، لم يتردد يوماً فى أن يظل بجانبها أثناء مرضها بعد إصابتها بالانزلاق الغضروفى، بل إنها تتذكر جيداً رمضان الماضى، حين كان يجول شوارع الجيزة بحثاً عن دوائها حتى يفوته موعد الإفطار، تقول الحاجة فضيلة: «زوجى كان يعمل مدير إدارة الكهرباء فى إحدى شركات التكييف، ولم يكن يتصور أبداً أن مكافأة خدمته للدولة مدة وصلت إلى 37عاماً ستكون بأنه يرمى فى الشارع ويلقى حتفه بسبب طوابير المعاشات»، وتروى الحاجة فضيلة تفاصيل الساعات الأخيرة التى قضاها زوجها معهم قائلة: «كان يستعد لهذا اليوم وكأنه عريس فى ليلة زفافه، وطلب منى أن أحضر له أفضل ثيابه بعد أن قضى حوالى ساعة فى الاستحمام وبعدها قص أظافره، وسألنى عما أحتاجه وطلبت منه تغيير أنبوبة البوتاجاز، ثم قال إنه سيذهب لصرف معاش الأجر المتغير الذى أعلنوا عنه، وحينها استغربت،خصوصاً أنه يكره الزحام وهذا ما جعله يطلب من ابنته أن تقوم بإجراءات تحويل معاشه على أحد البنوك ليصرفه عن طريق كارت الائتمان، لكنه برر لى موقفه بأن المعاش لن يضاف على هذا الكارت وأنه يحتاج مصاريف العيد لذا وافقته على رأيه، وخرج من المنزل ولكننى لا أستطيع أن أصدق أنه لن يعود إلينا مرة أخرى». وتضيف: مرت ساعات طويلة دون أن يعود أو يحادثنا فى التليفون لنطمئن عليه، فبدأنا نبحث عنه فى كل مكاتب التأمينات وفى المستشفيات وأقسام الشرطة لكن دون جدوى، إلى أن اتصل بنا أحد أقاربنا وأخبرنا أنه سمع من أحد برامج التليفزيون بوفاة «بدر»، فلم أصدق الخبر، وهنا التقطت ابنته إلهام أطراف الحديث قائلة بعد أن علمنا من وسائل الإعلام بالخبر اتصلنا بقسم الهرم وسألنا عن الواقعة، فأكد وفاته فعدت لأسأله: إذا كان هذا حدث بالفعل، فلماذا لم ترسل إلينا وقتها؟ فرد على مسؤول قائلاً: «إدينى بأقولك أهه». وبعدها كان أمامنا الكثير من المشاكل لإنهاء تصريحات الدفن منها أن القسم أرسل المحضر إلى النيابة دون أن يذكر فيه أنه لا توجد شبهة جنائية، وكان علينا أن نعود لإعادة صياغة المحضر من جديد، وبعد كل ما عانيناه لنستطيع أن ندفن أبى قبل صلاة العصر، قال لنا أحد الموظفين هناك احمدوا ربنا إنكوا هتدفنوه تانى يوم، ده فى ناس بتعدى يومين وتلاتة، شعرنا بعدها أنه لا قيمة للمواطن حياً أوميتاً». أما ابنه محمد فيتذكر جيداً وصية والده له بأن يصطحب ابنه بدر لزيارة أهل جدته، وقال إنه سينفذها لأنه يعلم جيداً قدر هذا الحفيد فى قلب جده، خصوصاً بعد أن كان يرفض بشدة أن يحمل الأطفال الصغار خوفاً من أن يسقطوا من بين يديه، لكن الأمر اختلف كثيراً بقدوم بدر الصغير الذى أجبر جده على أن يحمله منذ يومه الأول، بل إنه كان يسمح له بأن يقفز على ظهره وأن ينتشل منه نظارته دون أن يعاقبه ولو حتى بنظرة حادة، ويبدو أن بدر الصغير عليه أن يقضى عيده الآن دون جده فهو لن يعود ليقفز على ظهره من جديد بل إن نظارته ضاعت ضمن أغراضه أيضاً وعليه فى يوم من الأيام أن يدرك أن طوابير المعاشات هى التى حرمته من «بدر الكبير».