لا أعرف المهندس عبدالرحمن حافظ، الرئيس السابق لاتحاد الإذاعة والتليفزيون ومدينة الإنتاج الإعلامى، ولم أقابله فى حياتى، ولا رأيته ولا رآنى، وإن كنت، لأسباب ليست واضحة، أتذكر المخرج يحيى العلمى على الفور كلما رأيت صورة للمهندس حافظ.. ربما لأن هناك شبهاً فى الشكل والملامح بينهما! وقد كنت، شأنى شأن أى مواطن، متابعًا للأحوال العامة فى البلد، أرصد، عن بعد، ما جرى للرجل فى السنوات الأخيرة، وكيف أن اسمه أصبح يتردد فى صفحات الحوادث، أكثر مما تصادفه فى أبواب الإذاعة والتليفزيون فى الصحف.. وكانت هناك اتهامات تلاحقه منذ فترة، وكان يخرج من قضية ليدخل فى قضية أخرى، دون أسباب مفهومة فى أغلب الأحوال! والحقيقة أننى لم أنفعل بما فيه الكفاية، مع خبر اتهامه بإهدار المال العام، ووقوفه فى قفص الاتهام، ربما لأننى لا أعرفه، وربما لأن هناك إحساساً عاماً بأن الجزء المفتعل، فى مثل هذه المحاكمات التى تشغل الرأى العام، يظل أكثر من وجه الحقيقة.. وربما.. وربما.. إلى آخر الأسباب التى تجعل المرء منصرفاً عن الانشغال بمثل هذه القضايا، وقليل الاهتمام بها، وبشأن أصحابها، خاصة إذا كان البطل فى القضية ليس سياسياً بارزاً، وليس وزيراً أو مسؤولاً من الدرجة الأولى! وجاء وقت قيل فيه إن المهندس عبدالرحمن قد هرب.. وقيل إنه اختفى.. وقيل كلام كثير كان بمثابة حلقة من حلقات مسلسل لم ينتجه الرجل حين كان على رأس مدينة الإنتاج الإعلامى، وإنما أصبح هو مادته، وأصبح هو البطل فيه، وأصبح هو محوره، على نحو لم يكن يطوف له فى خاطر! وقبل يومين، تصدرت صورته الصفحة الأولى فى عدة صحف، وتذكرت الراحل المبدع يحيى العلمى مرة أخرى، ولكن عنوان الخبر، ثم تفاصيله كانت كلها جديدة تماماً هذه المرة.. لقد قضت المحكمة ببراءته من تهمة إهدار المال العام، وقد آن بالتالى له أن يستريح، وحان لهذا الملف أن نغلقه.. وحتى أكون صريحاً، لم أنفعل بما فيه الكفاية أيضاً ببراءة الرجل، بالضبط كما حصل يوم اتهامه.. هذا ما حدث! مضت ساعات معدودة على أصابع اليدين بعد إعلان براءته، وكان اسم المهندس عبدالرحمن حافظ، يعود منشوراً بالبنط العريض، فى الأهرام، صباح أمس.. وكان نشر الاسم هذه المرة لسبب لم يتوقعه هو، ولا توقعه أحد من القريبين منه على الأقل.. كان الرجل، صباح أمس، ينعى زوجته السيدة منى الصباغ إلى الناس! وكان لابد أن ننفعل هذه المرة، كما لم يحدث من قبل، فى اتهامه وفى براءته.. وقد كان الشىء الذى لابد أنه استوقف كثيرين، ليس موت السيدة التى وصفها زوجها، فى سطور النعى، بأنها كانت صابرة وطاهرة، سواء كان موتاً مفاجئاً، أو عن مرض.. لا.. لم يكن هذا هو الشىء الذى لابد أنه سوف يستوقف كثيرين.. فجميع الناس سوف يموتون.. والحقيقة الوحيدة المؤكدة فى حياة أى إنسان يولد، كما قال سارتر، هى أنه سوف يموت، وكل ما عداها موضع شك! وإنما كان توقيت رحيل السيدة الصابرة الطاهرة، هو الشىء المثير للانتباه حقاً.. إننى لست درويشاً، ولا أنا ممن يتعسفون فى تفسير مثل هذه الأمور.. ولكنه توقيت «ربانى» بكل معانى هذه الكلمة، وكأن السيدة الراحلة قد استمهلت الله تعالى، فى أن يؤخر يومها إلى أن تشهد براءة زوجها، ثم تموت فى ساعتها.. كأنها حين نشرت الصحف براءته على الدنيا، أحست من جانبها بأن البقاء لم يعد له معنى، وأن ما كانت تعيش من أجله قد تحقق، وأن أملها قد تجسد فى براءة معلنة بحكم محكمة.. فى هذه اللحظة وحدها، استأذنت فى الانصراف، ولملمت أشياءها، وطارت إلى السماء وهى لا تبالى، ليبكى عبدالرحمن حافظ مرتين: مرة فرحاً ببراءته، ومرة كمداً على رفيقة درب، وقرينة مشوار، رحلت فى لحظة فريدة ونادرة!