فى ديسمبر من عام 1979 عقدت ندوة دولية تحت عنوان «المثقفون والتغير الاجتماعى فى العالم العربى» بمركز بحوث الشرق الأوسط بجامعة عين شمس، إذ كنت وقتها رئيساً لشعبة الدراسات الإنسانية. دعوت إليها مثقفين مرموقين وكان من بينهم فؤاد مرسى وهو من رواد الحركة الشيوعية المصرية ووزير التموين الأسبق فى عهد الرئيس السادات، وكان أول المتحدثين فى الندوة، وكان عنوان بحثه «أزمة المجتمع هى أزمة مثقفين». بدأ بحثه بعبارة مأثورة «لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية»، ثم أضاف من عنده «ولا نظرية ثورية بدون ثورة ثقافية»، ثم تساءل: ما المجتمع؟ وما الثقافة؟ وجاء جوابه على النحو الآتى: المجتمع محكوم بقواه الإنتاجية، وعندما تبلغ القوى الإنتاجية، فى تصاعدها مرحلة معينة من مراحل تطورها فإنها تدخل فى صدام مع الوضع القائم الذى يمثل قيداً تمتنع معه مسايرة الوضع الصاعد، وعندئد تكون الثورة لازمة، وإن امتنعت يدخل المجتمع فى أزمة وهنا يأتى دور الثقافة والمثقفين للخروج من هذه الأزمة. ثم استطرد قائلاً: نحن فى مصر نواجه هذه الأزمة، إذ تجاهلنا قوى الإنتاج ودخلنا فى نشاط اقتصادى طفيلى تحت شعار «الانفتاح الاقتصادى»، وواكبت هذا النشاط الطفيلى ثقافة طفيلية ذات قيم طفيلية أصابت العقل المصرى بالكسل فامتنع عن الإبداع. وحيث إن المثقفين هم ضمير المجتمع فإذا فسد ضمير المجتمع دخل المجتمع فى أزمة. هذا موجز لبحث فؤاد مرسى. وبعده تليت أبحاثاً أخرى إلى أن انتهت جلسات اليوم الأول، وإذا بمسؤول من وزارة الداخلية يصل ويطلب منى أبحاث الندوة فأخبرته بأنه من الأفضل أن ينتظر إلى نهاية الندوة حتى أعطيه جميع الأبحاث مع تسجيل صوتى لكل ما دار فى الندوة من حوارات، وقد كان. انتهت الندوة وبقى طبع أبحاثها تحت إشرافى. إلا أننى أبلغت بأن مدير المركز هو المكلف بالإشراف على الطبع فاستجبت، ولكننى فوجئت، بعد صدور كتاب الندوة، بأن بحث فؤاد مرسى هو البحث الوحيد المحذوف منه نصفه وهو النصف الخاص بالتطبيق، أى الخاص بنقد سياسة الانفتاح ثم فوجئت ثانياً بأن فؤاد مرسى قد أحيل إلى المحاكمة بتهمة الاشتراك فى مؤامرة لقلب نظام الحكم تحت مسمى «مؤامرة التفاحة» ثم فوجئت ثالثاً بأن جزءا من التسجيل الصوتى قد أضيف إلى تسجيلات صوتية أخرى بها صوت فؤاد مرسى. ومع ذلك صدر الحكم ببراءته ومع ذلك يبقى سؤال لابد من إثارته: ما مغزى حذف الجزء التطبيقى من بحث فؤاد مرسى والإبقاء على الجزء النظرى؟ ونجيب بسؤال: هل الجزء النظرى من شأن المثقف والجزء التطبيقى من شأن السلطة السياسية؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فهل معنى ذلك أن المثقف ليس من حقه نقد الواقع الاجتماعى القائم لأنه من اختصاص السلطة السياسية؟ أو هل معنى ذلك أن الجزء النظرى. مثل الزائدة الدودية، لا تأثير له على مسار الجزء التطبيقى؟ أما إذا كان الجواب بالسلب فمعنى ذلك أنه لا ممارسة عملية بدون نظرية، وبالتالى فإنه من اللازم للسلطة السياسية أن تكون على وعى بالنظرية بحيث يمكن إجراء تعديل فى كل من النظرية والممارسة العملية. ومن هنا فأنا أوثر الجواب بالسلب على الجواب بالإيجاب. ويترتب على ذلك أن تكون لدينا سلطتان: سلطة ثقافية متداخلة عضوياً مع السلطة السياسية، وأن تكون مهمة السلطة الثقافية تصور وضع قادم من أجل تغيير وضع قائم. وقد تتعدد التصورات للوضع القادم، فإذا تعددت فعلى السلطة السياسية أن تختار أحد هذه التصورات وتحذف الباقى ولهذا فإن التحدى الذى يواجه هذه السلطة يكمن فى عملية الاختيار. والسؤال إذن: ما معيار الاختيار السياسى؟ فى تقديرى أن المعيار ينبغى أن يكون شيئاً من السمة الأساسية للثورة العلمية والتكنولوجية وهى السمة «الجماهيرية» بحكم أن المصطلحات البازغة من هذه الثورة تحمل سمة الجماهيرية فنقول إنتاج جماهيرى ومجتمع جماهيرى ووسائل اتصال جماهيرية وثقافة جماهيرية وإنسان جماهيرى الذى هو «رجل الشارع». والسؤال إذن: هل عقل رجل الشارع مواكب لعقل الثورة العلمية والتكنولوجية؟ أظن أن الجواب بالسلب والسؤال إذن: من المسؤول عن تحقيق هذه المواكبة؟ إنها السلطة الثقافية وليست السلطة السياسية. والسؤال إذن: هل ثمة سلطة ثقافية؟