حدث ما كان متوقعاً، وانفض الحوار الفلسطينى - الفلسطينى قبل أن يبدأ، وضاعت هدراً المجهودات المضنية التى بذلها الوسيط المصرى، على امتداد شهور، بلغت ذروتها فى شهر رمضان الماضى من أجل فك الغزل الفلسطينى المعقد، وتحديد نقاط الاتفاق والخلاف بين أطرافه - وأطيافه - التى لا حصر لها، لتكون أساساً لحوار، ينتهى بتوحيد الصف الفلسطينى، فإذا به ينتهى ببيان يعلن - من دمشق - انسحاب ثلاثة من الفصائل الفلسطينية، وتأجيل الحوار إلى أجل غير مسمى! وليس الأمر فى حاجة إلى ذكاء كبير لكى يدرك كل من لديه أدنى إحساس بالمسؤولية الوطنية والقومية، أن المستفيد الوحيد من فشل الحوار، هو إسرائيل، وأن الخاسر الأكبر من تأجيله، هو الفلسطينيون، وأن أسخف نكتة فى التاريخ العربى المعاصر، هى نكتة انقسام «فلسطين السليبة» إلى دولتين، لكل منهما علم ونشيد وعاصمة ورئيس وحكومة ومحطة تليفزيون، تمارسان مهامهما فى ظل الاحتلال الإسرائيلى السعيد، الذى تبرطع طائراته ومجنزراته ومصفحاته فى أنحائهما، وتحاصرهما من البر والبحر والجو، تعيشان على المعونات الدولية، وعلى تهريب السلع الغذائية عبر الأنفاق، وتتعاملان بالشيكل، ويحتاج أكبر رأس فى كل منهما، إلى إذن من سلطة الاحتلال لكى ينتقل من بلده إلى أى بلد مجاور.. وأحياناً من قرية إلى أخرى، ومع ذلك تعلنان الحرب ضد بعضهما البعض، وتحتاجان إلى وسطاء لتوقيع اتفاقية سلام فيما بينهما! وليس الأمر - كذلك - فى حاجة إلى ذكاء كبير لكى يدرك كل من لديه أدنى خبرة بلعبة السياسة على الطريقة العربية، أن كلاً من طرفى الصراع الرئيسيين - وهما «دولة عباس» و«دولة حماس» - قبل الحوار، تحت وطأة الظروف المحلية والإقليمية والدولية، وفى ظل الضغوط العربية الشعبية والرسمية، التى وصلت إلى تهديد الدول العربية بأن تقطع علاقتها بالطرف الذى يرفض الحوار، أو يتسبب فى إفشاله، والأهم من هذا أن كلاً منهما توهم أنه يمسك الآخر من يده الموجوعة، وأنه يستطيع أن يحقق هدفه، فى الاحتفاظ بما تحت يده من سلطة، وتوسيع نطاقها، فإذا لم يتحقق له ذلك، أفشل الحوار، وعلق فأس المسؤولية عن ذلك فى رقبة الآخر، ونجا من التهديدات التى أطلقتها الجامعة العربية! راهنت دولة «حماس» على أن فشل عملية «أنابوليس»، وعجز الرئيس الأمريكى المنصرف جورج بوش عن تنفيذ وعده بالتوصل إلى إقامة الدولة الفلسطينية قبل رحيله من البيت الأبيض، سوف يضعفان موقف «محمود عباس»، فضلاً عن أن اقتراب موعد انتهاء مدة رئاسته - فى 10 يناير من العام المقبل - يجعله مضطراً لإجراء انتخابات رئاسية، وإلا فقد شرعيته الدستورية، وفقد صفته كمفاوض باسم الشعب الفلسطينى، ولأنه لا يستطيع إجراء الانتخابات، والوضع على ما هو عليه فى غزة، فليس أمامه مفر من الاعتراف بالوضع الراهن فيها. وراهنت «دولة عباس» على تآكل شعبية «حماس» فى ظل حكومة أمير المؤمنين إسماعيل هنية، التى أدت إلى عزلتها عربياً ودولياً، وحولت «إمارة غزة الإسلامية» إلى سجن إسرائيلى كبير، لا يجد أهله عملاً أو طعاماً أو ماء أو كهرباء أو علاجاً، مع أن لديهم تليفزيوناً لا يكف عن إذاعة الأناشيد الحماسية، بل شرعوا فى إنشاء مدينة للإنتاج الإعلامى، لإنتاج برامج تدعو للمقاومة التى كفوا عنها، وتوقعت أن يدفعها ذلك للموافقة على إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل انقلاب يونيو 2007، مع بعض التعديلات! كان دخول الفصائل الفلسطينية الأخرى إلى حلبة المناقشات التى مهدت لوضع جدول أعمال الحوار، هو أحد أهم الأسباب التى دفعت حماس للانسحاب من الحوار، ولإفشاله، إذ كان هدفها الأساسى منه، هو مساومة «حكومة عباس» على تقاسم السلطة بينهما، على أساس أن يقوم هو، بالدور الذى تتعفف الأيدى المتوضئة عن القيام به، فيفاوض الإسرائيليين ويوقع معهم اتفاقية سلام، بينما يتولون هم الحكم، لإقامة الخلافة الإسلامية فى فلسطين، التى تعترف بإسرائيل وتطبع العلاقات معها، وتدخل معها فى هدنة دائمة مدتها نصف قرن على الأقل! أما وقد رفضت «فتح» أن تتفاوض مع «حماس» خارج نطاق الحوار مع كل الفلسطينيين، فقد كانت تلك هى الفرصة التى اقتنصتها الأطراف الإقليمية التى شجعت «حماس» على إفشال الحوار، وإبقاء الوضع على ما هو عليه، لكى يظل الوضع فى غزة، ورقة ضغط تستخدمها هذه الأطراف، فى مساومة الرئيس الأمريكى المقبل، حول مشاكلها المعقدة مع الولاياتالمتحدة، فإذا توصلت إلى حل، فسوف تقبل «حماس» كل شىء، لأنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا تخلت عنها. جوهر المسألة الفلسطينية الآن، هو عجز القوى الوطنية الفلسطينية - وعلى رأسها «فتح» و«حماس» - عن التوصل إلى مشترك وطنى، يحدد هدفاً مرحلياً واضحاً، وأساليب النضال من أجل تحقيقه، ويحقق التناغم بين «المفاوضة» و«المقاومة» بحيث لا يكون أحدهما بديلاً للآخر، وهذا هو الموضوع الذى ينبغى أن تدور حوله المنافسة بين الجميع فى انتخابات رئاسية، وتشريعية مبكرة، تجرى فى الضفة والقطاع والقدس، تحت إشراف دولى، لكى يختار الشعب الفلسطينى، بعد التجربة المريرة للسنوات الأربع الماضية، ممثليه، ويحدد بوضوح خياراته السياسية.. وآنذاك سوف نكون جميعاً فى صف من يختاره! أما قبل ذلك فليس من حق أحد أن يدعى أنه يمثل الشعب الفلسطينى.