.. فجأة دخل علىّ - فى مكتبى بالجامعة - عدد من الطلاب الذين أقوم بتدريس مادة العلاقات السياسية الدولية لهم، وهم فى حالة غضب وهياج يندبون حظهم العاثر الذى جعلهم يتقاطعون فى الطريق مع موكب أحد كبار المسؤولين، حيث تم احتجازهم لأكثر من ساعة، فتأخروا عن موعد الامتحان.. وعندما استوضحت الأمر شرح لى عميد الكلية أن «هذه الحالة» تتكرر كثيرًا بسبب إجراءات أمنية فظة وغليظة، يجد الطلاب أنفسهم بسببها فى شبه معتقل قد يمتد عدة ساعات. .. ورغمًا عنى وجدت ذاكرتى تنداح منها الوقائع التى عايشتها بنفسى فى عاصمة النور (باريس).. منها أن جاك شيراك، عندما كان رئيسًا لوزراء فرنسا فى تجربة التعايش السياسية الأولى مع الرئيس الفرنسى الأسبق فرنسوا ميتران، قرر أن يسير فى الشارع دون موكب حتى لا يسبب إزعاجًا للمارة من الناس العاديين.. ولقد اندهش رجال الأمن - وقتذاك-. عندما طلب إليهم أن يساعدوه فى أن يلتزم بإشارات المرور مثل سائر البشر، فليس مقبولاً ولا معقولاً من وجهة نظره أن يكسر هذه الإشارات - تحت أى ظرف من الظروف-، لأنه فى النهاية مواطن فرنسى عليه أن يساعد على احترام القوانين لا على عصيانها والاستهانة بها.. وإن كان لابد من عجب، فلنعجب من الواقعة التالية كنا نسير ذات صباح- زميل تونسى وآخر عراقى وأنا - فى شارع سان ميشيل المتجه إلى جامعة السوربون (حيث ندرس) فإذا بنا نجد أمامنا - وجهًا لوجه - رئيس وزراء فرنسا وقتذاك وهو الاشتراكى الكبير لوران فابيوس يمسك بيد طفلته الصغيرة، بينما كان منهمكًا فى قراءة صحيفة «ليبراسيون».. عقدت الدهشة ألسنتنا، خصوصًا أن الرجل كان يسير دون أمن أو حراسة.. وبدا لنا أنه يتصرف - والحالة هذه - كأب يقوم باصطحاب ابنته إلى مدرستها، ونسى تمامًا أنه رئيس وزراء لواحدة من كبريات الدول فى أوروبا والعالم. .. الأغرب من هذا أن زميلنا التونسى اتجه نحوه وحياه مرة، ثم مرة ثانية، فاندهش لوران فابيوس الذى شرح له زميلنا أنها المرة الأولى التى يرى فيها رئيسًا للوزراء يسير على قدميه فى شارع عام.. فابتسم لوران فابيوس وهو ينظر نحونا - وكنا نقف على بعد خطوات - وقال لزميلنا التونسى: ليس فى الأمر ما يدعو للدهشة أو الاستغراب، لأن سعادتى فى اصطحاب طفلتى إلى المدرسة لا تعدلها سعادة أخرى.. ثم لا تنس أننى مواطن عادى سوف أفتح الكيس الذى فى يدى بعد قليل لألتهم الكرواسون اللذيذ مع القهوة الصباحية.. وأقسم أن لوران فابيوس قال ذلك وهو يحث الخُطى ذاهبًا إلى مدرسة ابنته.. وتركنا نتلفت بحثًا عن سيارة (أو بوكس شرطة) أو ضابط يتدلى من خاصرته مُسدس، فلم نجد، وأشهد أنه ترك فى نفوسنا توجعات وحسرات لأن كلاً منا أخذ يستدعى إلى ذاكرته ألوان العسف والإذلال التى يتعرض لها الناس العاديون الذين تقذف بهم المصادفة فى طريق أحد المسؤولين. وفى باريس حدثنى أحدهم (فُلان) بأن مدير المكتب الذى كان يعمل به وضعه وراء القضبان ليحاكمه - فى محكمة أشبه بمحاكم التفتيش المقيتة - لأن أحد سفراء الدول العربية سأله يومًا عما إذا كان يعمل مع (فلان).. وسبب هذه الثورة أن السيد مدير المكتب يرى أن (فلان) هذا هو الذى يعمل معه، وبالتالى فإن السفير العربى قد أهانه وهبط به من عليائه عندما تصور أنه - بجلالة قدره - يعمل مع هذا ال (فلان). ولأن للّه فى خلقه شؤونًا كما تعرف، فلقد ضاع هذا «المدير» فى زحام الحياة، وارتفع صاحبنا (فلان) ليعانق عنان السماء. والمعنى أن عقدة المدير والرئيس، والقائد تسكن الكثيرين وتبرر للمرضى منهم سلوكيات لا معقولة.. وللإنصاف يجب أن نذكر أن هذه «النقيصة» يشارك فى خلقها وتضخمها السلبية التى تتسم بها سلوكيات الناس. ويحضرنى هنا مثال دارت وقائعه كما يلى: كنا - مجموعة من الطلاب العرب الذين يدرسون فى باريس - نهبط من إحدى عربات مترو الأنفاق فى باريس، فرمق أحدنا الأستاذ المشرف على رسالته يهبط هو الآخر من نفس المترو ويسير متأبطا كتبه وحاملاً حقيبته متجهًا إلى الجامعة.. فهرول (صاحبنا) باتجاه الأستاذ، وتطوع أن يحمل حقيبته (نيابة عنه).. فرفض الأستاذ بشدة وأخذ يجادل (صاحبنا) فى المبدأ قائلاً له: - إنها حقيبتى وبالتالى على أن أحملها، انطلاقًا من المبدأ الذى يقول: صاحب الشىء أحق بأن يحمله.. ورغم أن (صاحبنا) حاول أن يشرح وجهة نظره والتى تدور حول أن الأستاذ رجل كبير فى السن، والحقيبة ثقيلة، والواجب يحتم عليه أن يعرض المساعدة.. وانتهى الجدل فى قاعة المحاضرة بالجامعة عندما شدد الأستاذ على أن (أستاذيته) لا تفرض على طلابه شيئًا إضافيًا. وكان الدرس أن كبار المسؤولين، والقيادات والرؤساء والوزراء فى بلاد الدنيا أناس عاديون، أما فى بلادنا، فهم - كما قال الفيلسوف الألمانى نيتشه - أنصاف آلهة على أقل تقدير.